في أساس الفكرة الليبرالية في الاقتصاد أن العقلانية، أي الأنانية، تعني اتخاذ القرارات بناءً على الاعتبارات الاقتصادية الصرف، حيث يتصرف الفرد حسب مصلحته الفردية وتتولى السوق الباقي. في صيغتها الجديدة، تتطور الفكرة لتؤكد ضرورة الفصل الكامل للسياسة عن الاقتصاد والسوق عن الدولة. وقد نتجت عنها منوّعات مختلفة في التطبيق، فتارة السياسة/السلطة/الدولة تخنق الاقتصاد، أي القطاع الخاص، وتعرقل عمل آليات السوق والمنافسة الحرة… وتارة أخرى تسيطر المصالح الخاصّة على الدولة، بما هي «المجال العام». وكلاهما من فكر ما بعد الحرب الباردة. ومن منوّعات «الاستيلاء» أو «السيطرة» (Capture) «سيطرة النخب» السياسية (Elite Capture)، أي استيلاؤها على الاقتصاد ومؤسساته؛ تصارعها مقولة (State Capture)، أي «الاستيلاء على الدولة»، بما هي المجال العام، من قبل شبكات المصالح الخاصة، وهي هنا مصالح اقتصادية.

المفارقة في الدعوة لتلك الأفكار النيوليبرالية هي أن دعاتها والمروجين لها يمارسون هوساً كاملاً بالسلطة والسلطان كما سنرى في ما يلي.

تنتمي «رأسمالية المحاسيب»، أو «انتفاع الأقربين» (Cronyism/Crony Capitalism)، إلى مقولات الفئة الأولى، وهي تعني تحصيل الربح لا من خلال السوق، وإنّما من خلال الاستعانة بنفوذ ذوي السلطة السياسية، بما يميز بين رجال أعمال ورجال أعمال بالضدّ من قوانين المنافسة. هكذا ينتفع ذوو الصلة بالسلطة السياسية بأفضليات في عقود الدولة والتزاماتها ومشاريعها الاستثمارية وتقديماتها وبالإعفاءات والتسهيلات الضريبية وغيرها..

تستخدم عشرات الصفات والنعوت التي تلحق بالرأسمالية، والرأسماليين، لتنزيهها عن سلبياتها والتناقضات، على اعتبارها جميعاً ليست هي «الرأسمالية» الصافية بأل التعريف ولا يختلف «انتفاع الأقربين» كثيراً عن مقولة الفساد، بل قل هو منوّع من منوّعاتها. وهو يعتبر طبعاً شواذاً في الرأسمالية لأنه يخرق التنافسية في السوق. حتى أن بعض الاقتصاديين ينفي عنه صفة الرأسمالية. وفي حالتي الشواذ والنفي، تستخدم عشرات الصفات والنعوت التي تلحق بالرأسمالية، والرأسماليين، لتنزيهها عن سلبيّاتها والتناقضات، على اعتبارها جميعاً ليست هي «الرأسمالية» الصافية بألـ التعريف.

من الدراسات حول هذا الموضوع دراسة للجامعي جاد شعبان ذات عنوان معبر «I’ve got the power»، ما يمكن ترجمته إلى العربية «الإمرة لي» أو «أنا السلطة: مسح الصلات بين القطاع المصرفي اللبناني والطبقة الحاكمة» (2016 و2019).

خلاصة أطروحة شعبان أن 18 من أصل 20 مصرفاً من كبار المصارف في لبنان تضمّ مساهمين ومدراء ينتمون إلى «عائلات سياسية»، أو هم على صلة بالنخب السياسية ومقرّبون منها. ويسيطر هؤلاء على 43 في المائة من أصول تلك المصارف وتسيطر ثماني «عائلات سياسية» على 32 في المائة من الأصول أي على 7,3 مليارات دولار (حسب أرقام العام 2014). ويعمل الباحث على إثبات أن التواطؤ بين السياسيين والمصرفيين «يجد تعبيره في بنية ملكية المصارف». أي أن الإمرة والسلطة تتحول إلى ملكية.

شكلت الدراسة مرجعاً، في الخارج خصوصاً، عن الفساد والمحسوبية السياسية والعلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الاقتصادية في لبنان، كما في تفسير مسؤولية «الطبقة السياسية» عن الأزمة المالية الراهنة. ها هو موظف كبير في مؤسسة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في جنيف، يستشهد بالدراسة نفسها في خلال زيارة رسمية للبنان في كانون الأول 2022، ويتهم فيها السياسيين بجرائم ضد حقوق الإنسان بسبب سيطرتهم على الاقتصاد من خلال سيطرتهم على 43 في المائة من أصول المصارف.

أمّا «الصلة بالسياسيين» فبالغة الدلالة، لأن البحث في من هم هؤلاء السياسيون، يكشف ما يشبه التحقيق البوليسي الذي يتحرى عن كل ما له صلة بالسياسة في عالم المصارف. تشمل اللائحة الاتهامية أيضاً: مرشحين على الانتخابات النيابية؛ أبناء أسر حاكمة وسياسيين من دول الخليج؛ شقيق مصرفي لبناني؛ أربعة أقرباء لسياسي سابق؛ إبن رئيس جمهورية سابق؛ موظفا في البنك المركزي، ومقرّباً من حاكم المصرف المركزي، وعضواً في «لجنة الرقابة على المصارف»، وحاكم المصرف المركزي نفسه؛ إبن عم رئيس وزراء؛ زوجة رئيس وزراء؛ إبن رئيس وزراء؛ حفيد نائب سابق؛ والد وزير سابق؛ إبن وزير سابق؛ سفيرا في أرمينيا، وشقيق سفير.

أما «العائلات السياسية» فالنموذج عنها هو «بنك عودة»، الذي يضم إبن رئيس حكومة وهو فهد الحريري، ووزير سابق، ومساهمين آخرين ذوي صلات بحكام خليجيين. الوزير السابق هو ريمون عودة، مؤسس «بنك عودة» ورئيس مجلس إدارته السابق، وقد شغل منصب وزاري مرة واحدة، فلزم تصنيفه سياسياً. الرجل سليل عائلة عرفت في صناعة الصابون منذ القرن التاسع عشر أقلّه (حول عودة مصنع العائلة إلى «متحف الصابون» في صيدا)، ومصرفه ثاني أقدم المصارف المذكورة في لائحة شعبان. وعلى جريرة عودة والحريري، يجري تسييس عائلة القصّار، أي عدنان القصّار، رئيس مجلس إدارة «فرنسبنك»، وأخيه عادل، وهم أسرة تجارية اشترت «بنك صبّاغ» من مالكيه وهو أقدم مصرف بين مصارف اللائحة (1921). وشغل القصّار طويلاً رئاسة غرفة التجارة والصناعة وغيرها من هيئات رجال الأعمال العربية والدولية. وتولى المنصب الوزاري مرتين، فاستحق وعائلته لقب «العائلة السياسية». والأمر نفسه ينطبق على فريد روفايل، ومؤسِّس ورئيس مجلس إدارة «البنك اللبناني الفرنسي» الذي شغل منصباً وزارياً هو أيضاً، وعلى آل صحناوي، الأسرة السورية الأصل، التي برز أفرادها عندما حازوا على رخصة إنشاء معمل إسمنت في عهد كميل شمعون. أما توفيق عسّاف الذي ترسمل في فنزويلا وكان وكيل شركة «بيبسي كولا» في لبنان، قبل أن يؤسس «بنك بيروت والبلاد العربية» الذي يرأس إبنه غسان مجلس إدارته. وشغل مروان خير الدين صاحب «بنك الموارد» المنصبَ الوزاري مرة واحدة وسقط في الانتخابات النيابية الأخيرة ويبقى عضو عائلة سياسية. وعائلة رجل الأعمال رفيق الحريري وورثته، وكانت إلى حين مالكة «بنك المتوسط»، تشكل عائلة سياسية خرج منها رئيسَا وزراء.

رجل الأعمال هو كل مواطن تشكل عائدات عمله في أحد فروع الاقتصاد - من أرباح وريوع وفوائد ورواتب - الحصة الأكبر من دخله. ينطبق هذا المقياس على جميع أفراد العائلات الثماني التي يسميها شعبان «عائلات سياسية»، تعريف شعبان البوليسي للسياسي هو أي رجل أعمال شغل منصباً نيابياً أو وزارياً أو له شبهة علاقة بالإدارة العامّة والقضاء. وهو يعتبر ذلك من البديهيات التي لا تحتاج إلى شرح. لعلنا نستطيع أن نبحث عن تعريف اقتصادي لرجل الأعمال، بمن فيه المصرفي، ما دام البحث في الاقتصاد والباحث عالم اقتصاد. رجل الأعمال هو كلّ مواطن تشكل عائدات عمله في أحد فروع الاقتصاد - من أرباح وريوع وفوائد ورواتب - الحصة الأكبر من دخله. ينطبق هذا المقياس على جميع أفراد العائلات الثماني التي يسمّيها شعبان «عائلات سياسية»، فيما هي في الحقيقة عائلات رجال أعمال، كما ينطبق على سائر أعضاء مجالس إدارة المصارف الذين لهم صلة بالمصارف.

بناءً على تمييز رجل الأعمال، يمكن تعريف السياسي بما هو مواطن يمارس النشاط السياسي والحزبي والتمثيل النيابي والمشاركة في الحكم. وهو قد يكون رجل أعمال أو يمارس إحدى المهن الحرة (محامٍ، مهندس، طبيب، مدرس، إلخ…) أو موظف في الدولة، وما شابه. لكن يشكل عائده من مهنته وراتبه كنائب أو وزير، المصدر الأساسي لدخله. أما السياسي الذي ترسمل باستخدام النفوذ السياسي والعسكري في خلال الحرب، وبواسطة الانتفاع من المال العام، أي من الريوع السياسية، فيجدر تصنيفه بما هو رجل أعمال. ونعرف من نماذج هؤلاء الحكام والسياسيين المتحولين أنهم قد غادروا منذ فترة مرحلة «التراكم الأولي لرأس المال» من خلال الريوع السياسية، وتحولوا إلى الاستثمار في شتى الفروع الاقتصادية - والأثير عندهم هي الملكيّة العقارية، والوكالات التجارية، والاستثمار في الأسهم وسندات الخزينة في السوق العالمية، والإيداع في المصارف السويسرية أو في الملاذات الضريبية، وغير ذلك.

يبرهن شعبان أن الإمرة السياسية على المصارف محصورة بملكية الأسهم أو احتلال المقاعد في مجالس إدارة المصارف، أو هي الدليل القاطع عليها. والبديهي أن يثار السؤال: ألا يستطيع السياسيون ممارسة التأثير على المصارف من دون أن يمتلكوا أسهماً أو يحتلوا مقاعد في مجالس إدارتها؟ بمعنى آخر، هل أن هؤلاء السياسيين الذي انكشف أمرهم هم وحدهم الذي يمارسون نفوذاً ما على المصارف؟ وماذا بشأن المصارف التي لم تحظَ بسياسيين أو بمقرّبين منهم أو ذوي صلة بهم يملكون أسهماً فيها ويحتلون مقاعد على مجالس إدارتها؟ هل تحرم من الخدمات السياسية؟ ما يعني أن التحقيق البوليسي، الذي ألقى شبهة «الصلة بالسياسة» على العائلات المسيطِرة على القطاع المصرفي والمساهمين فيه، هو بديل كسول عن أي تحرٍّ جدي عن كل تعقيد العلاقة المتبادلة بين السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

موقع (صفر) – 10 أيار 2023

عرض مقالات: