«ان تاريخ كل مجتمع الى يومنا هذا لم يكن سوى تاريخ الصراع بين الطبقات. الحر والعبد، النبيل والعامي، الإقطاعي والقن، المعلم والصانع، أي باختصار المضطهِدون والمضطهَدون، كانوا في تعارض دائم، وكانت بينهم حرب مستمرة تارة ظاهرة وتارة مستترة، حرب كانت تنتهي دائما اما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره وأما بانهيار الطبقتين المتصارعتين معا» (البيان الشيوعي – كانون الأول 1847 – كانون الثاني 1848).

منذ ما يقرب من أربعين عاما، أكدنا على الصراع الطبقي باعتباره القوة الدافعة المباشرة للتاريخ، ولا سيما الصراع الطبقي بين البرجوازية والبروليتاريا باعتباره الرافعة الكبرى للثورة الاجتماعية الحديثة ... لقد صغنا صرخة المعركة صراحة: يجب ان يكون تحرير الطبقة العاملة من صنع الطبقة العاملة بالذات». (رسالة تعميم الى أوغست بيبل وولهلم ليبكنخت وولهلم براكه وغيرهم – 17/18 ايلول 1879).

أثنان وعشرون

الحياة السياسية ليست فقط مسألة أزمات ثورية. الهزائم التي عانى منها الشيوعيون في ألمانيا ما بعد الحرب، وفي المجر، وإيطاليا، وأماكن أخرى طرحت مشاكل نظرية وعملية أكثر عمومية. كيف يجب أن يفهم الشيوعيون الحركات الاجتماعية، وكيف لهم ان يرتبطوا بها بشكل عام؟ تتطلب الإجابة عن ذلك أن يطور الشيوعيون أسلوبا أكثر ملاءمة للوعي والتنظيم الشعبيين، وأن يتعلموا كيفية الارتباط بالحركات اليومية. هنا، تكون المناقشات داخل الأممية الشيوعية المبكرة شديدة الأهمية.

الخطأ الاستراتيجي الجوهري الذي عانت منه الأممية، عهدذاك، بفعل هيمنة “اليسار المتطرف” هو عدم إيلاء الاهتمام الكافي بكامل الحركة والتركيز على مصالحها الخاصة، مما يعني، من الناحية العملية الامتناع عن المشاركة في الصراعات الداخلية. وهذا ما يفسر فشل اليسارية المتطرفة بجميع أشكالها خلال القرن التالي. طرحت نقاشات الكومنترن السؤال التالي: كيف ينبغي للشيوعيين أن يتواصلوا، بشكل نشط، مع القوى التي كانت في الغالب أكثر عدداً داخل الحركة والتي كانت لا تزال تحت تأثير الأفكار والمنظمات الاشتراكية الديمقراطية أو حتى الأفكار والمنظمات الأكثر بعدا (على سبيل المثال، النقابية الكاثوليكية، أقرأ الدينية)؟ والجواب هو “الجبهة المتحدة” كشعار استراتيجي. الفكرة الأساسية هي أن على الشيوعيين المحافظة على منظماتهم السياسية المستقلة، وأن يطوروها، ولكن يجب أن يشاركوا في كل نوع من النضال الشعبي، ويسعوا لكسب التأييد لأفكارهم ليس فقط من خلال الدعاية فقط، بل أيضا من خلال إظهار تفوق أفكارهم العملية، ليتمكنوا من بناء سور من القواعد الاجتماعية يحميهم أمام خصومهم السياسيين. وهذا بدوره يتطلب مزيدا من الاهتمام بالتضاريس المتغيرة للنضالات اليومية، وتفاصيل الفروق المحلية الخاصة للمزاج والتنظيم.

احتاجت الماركسية إلى إدراك أن الطبقات لا تفكر وتعمل ككيانات منفردة، ولكنها تخضع لدوافع وضغوط متضاربة، وأن هذه تشكل الطريقة التي تتطور بها الحركات. يجب تلطيف المثالية الثورية بواقعية رصينة. إن الاحتفاء بكفاح الطبقة العاملة العفوي شيء، كما أشار لينين، ولكن “هناك عفوية وعفوية”: “تنجذب الطبقة العاملة تلقائياً نحو الاشتراكية. لكن الأيديولوجية البرجوازية الأكثر انتشارا (والمتجددة والمتنوعة باستمرار) تفرض نفسها بعفوية ايضا على العامل بدرجة أكبر’’ (لينين 1902”ما العمل؟). غرامشي أيضا اهتم كثيرا بهذه المسألة في “دفاتر السجن”، حيث ناقش “الوعي المتناقض”، أي عندما «يتناقض اختيار المرء الفكري مع طريقة سلوكه»، الذي يمر عبر الثقافة الشعبية:  «قد يكون للمجموعة الإجتماعية رؤيتها الخاصة عن العالم، حتى لو كانت جنينية فقط ؛ رؤية تتجلى في الفعل، وتتجلى من آن لآخر في ومضات خاطفة – أي عندما تتصرف المجموعة ككلية عضوية. غير ان هذه المجموعة نفسها، ولأسباب تتعلق بالخضوع والتبعية الفكرية، تتبنى رؤية ليست خاصة بها، بل رؤية استعارتها من مجموعة أخرى؛ معتقدة انها رؤيتها وتؤكد ذلك بالأقوال، لأنها رؤيتها في “الأوقات العادية”- أي عندما لا يكون سلوكها مستقلاً ومتميزاً، بل خاضعا وتابعا». (غرامشي، دفاتر السجن. 1971)

ما ينطبق على الأفراد والجماعات ينطبق أيضا على الحركات، وفي كل مرحلة من مراحل تطورها. بالنسبة للحركات، كما طرحنا سابقا، وبفعل انها “غير متجانسة” تكوينيا، و”شبكية” تنظيميا، فأنها تكون قادرة، في كل لحظة، على حمل إمكانات مختلفة لتطورها الكامل. إنها كيانات تضم، في آن واحد، عناصر من الرؤى المشتركة وفضاءات رحبة للسجال الداخلي. كيانات ذات شخصية “حوارية” داخلية، حيث تتنافس العديد من الأصوات. ويعتمد تطورها على المواقف الملموسة التي تواجهها وعلى قدرة تلك الأصوات المختلفة على جذب الآذان لسماعها.

ومن هنا جاء استنتاج غرامشي (اعتمادا على لينين)، بأن الحركات متباينة للغاية، في حد ذاتها، بحيث لا يمكنها صياغة أيديولوجية مشتركة مستقلة. يمكن لمجموعات داخلها تحقيق ذلك، لكن هذه المجموعات ستكون خاطئة إذا اعتبرت أن فهمها الخاص هو فهم شامل لكل الحركة. تتكون الحركات من “مستويات” و”ميول” متحركة، تتطور أحيانًا في اتجاه وتعاطف مع بعضها الآخر، وأحيانا في معارضة حادة معها؛ بعضها يتقدم (أو يتراجع) بسرعة، والبعض الآخر يتغيّر ببطء. جميعها معرضة إلى حد ما لضغوط وتدخلات عملية وأيديولوجية من قبل المعارضين.

عرض مقالات: