اتسمت أغلب الأسئلة التي طرحها عليّ العديد من الأحبة، ممن قرأوا مادة كتبتها تحية للذكرى 106 لثورة اكتوبر الإشتراكية العظمى، برغبة لحوار مجدٍ عن دروسها وأسباب ما آلت اليه، حوار يخلو من جزع اليأس، لاسيما في حلكة التراجعات والشدائد، ويبتعد عن العواطف التي قد تحجب الرؤى.

البراءة من العنف

ولعل من أبرز ما اعترض عليه البعض، ما قلته عن براءة البلاشفة من العنف عند اسقاطهم لحكومة كيرنسكي، رغم إني اعتمدت في ذلك على الأحداث التاريخية التي أكدت على أن الاستيلاء على السلطة قد أنجز بلا دماء، بغض النظر عما شكّله من مقدمة لحزمة من الأزمات السياسية، تمثلت في الخلافات الحادة بين البلاشفة حول معاهدة السلام والشروط المجحفة التي فرضتها الإمبريالية الألمانية عند توقيعها، واعلان الحرس الأبيض تمردهم الذي أوقع روسيا في حرب أهلية قاسية، والتدخل الأجنبي بمئة وثلاثين ألف جندي من 14 دولة. ولهذا كان أي تراجع أمام الهجوم البرجوازي الشرس، لا يعني السلمية بقدر ما كان يعني الإنتحار، وتكرار مذبحة 1848 و1871 في فرنسا، حين ذبح الجنرال كافينياك في الإولى وجنرالات حكومة فيرساي في الثانية، العمال المنتفضين واخمدوا كومونة باريس وابقوا فرنسا رأسمالية حتى الأن.

وتؤكد أية مراجعة لأحداث التاريخ، على أن البلاشفة وقادتهم، وبشكل خاص لينين، كانوا من أكثر الناس دعماً وتبنياً للديمقراطية وللحريات، وتعرضوا جراء ذلك لمصاعب كثيرة كالقتل والاعتقال والنفي والتشريد، على يد أكثر الدول قمعاً في العالم حينها. واقترن نضالهم من أجل الحرية بنشاطهم ضد الحرب ووحشيتها ومن أجل احلال السلام، حيث لم يكونوا دعاة محبة ووئام بين البشر فحسب، بل وقادرين على تشخيص أعداء هذه المفاهيم، ممن يعكف أحفادهم اليوم، على تشويه تاريخ البلاشفة وقائد الثورة لينين.

قفزة في الفراغ

وبرز من بين المعترضين من رأى في اكتوبر قفزة في الفراغ، غير منسجمة مع حركة التاريخ، لأنها أجهضت التطور الطبيعي للرأسمالية في البلاد. ورغم اتفاق الكثيرين من أن روسيا قد بدأت في شباط 1917 ثورة ديمقراطية بورجوازية، ولم يك وارداً قبلها، لا فكرياً ولا عملياً، تبني اقامة ديكتاتورية البروليتاريا، بسبب تخلف البلاد، التي شكل الفلاحون غالبية سكانها، فإن اضطرار البلاشفة لإعادة صياغة برنامجهم وتبنيهم ديكتاتورية العمال والفلاحين الديمقراطية، جاء جراء عجز البرجوازية عن انجاز مهام هذه الثورة، خاصة حين رفضت إبرام السلام وتوفير الخبز وأصرت على الحرب وتمسّكت بالأحلاف العسكرية وبحصتها من التركة الإستعمارية.

واستند تبني هذا الإجتهاد الى مؤتمر بازل للإممية الإشتراكية 1912، الذي دعا لإستغلال الأزمة الناجمة عن اندلاع الحرب وإطلاق عملية تصفية النظام الرأسمالي على مستوى العالم، والى تحليل لينيني، رأى في الحرب بداية لتحطم الرأسمالية التي فشلت وتعيش أخر مراحلها، وستعاني من حريق عالمي، يسقطها دفعة واحدة لاسيما في الدول المتقدمة، وهو ما لم يتحقق لأسباب عديدة، رغم أن الحريق كان قد شبّ بالفعل.

ولعل من المهم ان نتذكر بأن الجميع وفي مقدمتهم لينين، قد خشي من مخاطر فشل هذا الإجتهاد، وحذر مراراً من التخلف التقني والإقتصادي لروسيا، وتعددت دعواته الى تطوير الصناعة الثقيلة والتقنية الحديثة من جهة وتنمية البروليتاريا، عدداً ووعياً وتنظيماً من جهة مكملة. كما ظل الجميع، وإن بإهتمامات مختلفة المستوى، يعولون على شرط غير معلن، يتمثل في قيام ثورات عمالية في البلدان الرأسمالية المتطورة، تؤدي الى إستيلاء البروليتاريا على السلطة، وبالتالي تعاظم القدرة على مواجهة النظام الرأسمالي معاً.

كما لا بد أن ننوه بالدور التاريخي الذي لعبه لينين حينها، والمتمثل بقدرته على إجراء مراجعات فكرية، إستجابة لما تفرزه التطبيقات العملية، فجاء بسياسة النيب التي أكدت على أن فترة الإنتقال بين الثورتين تمثل عملية تاريخية طويلة ومعقدة، تتعايش فيها أربعة نماذج هي قطاع الدولة وتقف خلفه البروليتاريا، القطاع الخاص وتقف وراءه البرجوازية، الانتاج البضاعي الصغير ويقف وراءه الفلاحون وصغار المنتجين، رأسمالية الدولة المتمثلة بالقطاع المختلط والاستثمارات الاجنبية وتقف وراءه البروليتاريا ومن يتحالف معها من البرجوازيين.

ولعل من أبرز الدروس المستقاة من ذلك اليوم،  تطوير المفهوم الماركسي من الدولة، لإعطائها مضموناً أغنى وتحريرها من قيود المنطق الرأسمالي ومصالح وامتيازات الطبقات المسيطرة، اضافة الى الإستفادة من التطور الهائل للقوى المنتجة والثورة العلمية والتقنية، لخلق أشكال جديدة لتنظيم العمل الاجتماعي وللملكية العامة، توصلنا للاتحاد الحر للمنتجين.

ادارة الصراع

وكانت هناك اعتراضات كثيرة على ما كتبت، تتعلق بأسباب انهيار التجربة الإشتراكية، وحملت هذه الإعتراضات الكثير من التفاصيل التي تدل على أهمية الحوار حول ذلك. ولعل أبرز الإسباب التي تشير اليها الدراسات، يكمن في التغييرات الدراماتيكية التي حصلت داخل قيادة البلاشفة، والخلل الذي عانته في ادارة الصراع الفكري، وتفشي اليأس من انتصار بروليتاري في دولة كبرى ينهي عزلة روسيا، واعطاء الأولوية لمهام صيانة الثورة، على اشاعة الحريات، والتي استغلتها البيروقراطية الناشئة، في تثبيت هيمنتها وابعاد قادة وناشطين حزبيين ومثقفين ثوريين.

وقد وفرت الحرب الأهلية والتدخل الخارجي والصراعات داخل الحزب، لاسيما بعد رحيل لينين المبكر، فرصة مهمة لستالين والبيروقراطيين لحل الأجهزة الرقابية كالجمعية التأسيسية وتحويل السلطة الكاملة إلى الزعيم الواحد، الأمر الذي جرى معه تغيير في دور الحزب بالمجتمع من مؤسسة سياسية، فكرية طليعية واعية، مهمتها نشر الوعي ورفع مستوى الجماهير، إلى مؤسسة إدارية تقود كافة مرافق ودوائر الدولة المدنية والعسكرية والإقتصادية والثقافية، مما أدى الى تسرب الكثير من الأخطاء وحتى الخطايا لصفوف الحزب والدولة، من النفعيين والإنتهازيين بل وحتى المعادين للإشتراكية، وتراكمها كورم، قضى في النهاية على الجسد بأكمله.  

كما أدى غياب أية مراجعات فكرية تكشف طبيعة الديمقراطية الإشتراكية، وخاصة جوهرها أي الحرية، الى تحول دكتاتورية البروليتاريا من سلطة الأكثرية القادرة على نقل البشرية الى مجتمع الحرية المطلقة، الى دكتاتورية أقلية. كما ادى إلغاء سياسة النيب عام 1929 والتطبيق المتعجل لتأميم سائر وسائل ومرافق الانتاج وفرض السوفوخوزات في الريف وإنشاء نظام التخطيط المركزي ذي الطبيعة الإدارية والأوامرية، الى الحاق أفدح الاضرار بالإقتصاد السوفيتي، لاسيما في ظل ما فرضته الإمبريالية من سباق تسلح مضنٍ.

وبدلاً من رؤية التلكؤات و إجراء المراجعات المناسبة، جرى إطلاق العنان للأوهام التي ترضي القائد، وتعميمها حتى على الحركة الشيوعية، التي عانت كثيراً من تبعات ذلك على صعيد رسم السياسات أو تنظيم الحياة الداخلية.

هي حتفهم

ومن اغرب الإعتراضات على ما كتبت، جاء ممن تأسف على صرف وقت للحديث عن أمر تاريخي، ولد ومات حسب رأيه، ولم يعد له تأثير على حياتنا المعاصرة! ويحق لي أن أحيل اصحاب هذا الإعتراض، على كبار منظرّي الليبرالية والمحافظين الجدد، الذين لايرون في اكتوبر حدثاً تاريخياً عابراً، بل تهديداً معاصراً ومتواصلاً لعسفهم واستغلالهم. ومن الأمثلة على ذلك وصف قدمه ماكميكين للينينية، في كتابه (الثورة الروسية، تاريخ جديد، العام 2017) وأشار فيه الى أن (الحقيقة المؤلمة في اللينينية، انها عصيّة على أن تُمحى منذ ولادتها، فعدم المساواة الاجتماعية سيبقى يرافقنا إلى جانب بقاء الاشتراكيين، طيبي النية، مناضلين لاستئصاله).

كما أحيلهم الى الحسرة التي صرح بها علناً بعض الليبراليين الجدد، من أدعياء حقوق الانسان، ولومهم الشديد لكيرنسكي لأنه عجز عن قتل لينين، كما فعل الأخرون مع روزا ليكسمبورغ. وأخيراً، تؤكد الأحداث صحة القناعة من أن ثورة اكتوير ستبقى الشبح الذي يقضّ مضاجع الرأسمالية المتوحشة، انها حتف المستغِلين الذي يلج وعي الكادحين ويبشر بيوم خلاصهم.

عرض مقالات: