“ان تاريخ كل مجتمع الى يومنا هذا لم يكن سوى تاريخ الصراع بين الطبقات. الحر والعبد، النبيل والعامي، الإقطاعي والقن، المعلم والصانع، أي باختصار المضطهِدون والمضطهَدون، كانوا في تعارض دائم، وكانت بينهم حرب مستمرة تارة ظاهرة وتارة مستترة، حرب كانت تنتهي دائما اما بانقلاب ثوري يشمل المجتمع بأسره وأما بانهيار الطبقتين المتصارعتين معا” (البيان الشيوعي – كانون الأول 1847 – كانون الثاني 1848).
منذ ما يقرب من أربعين عاما، أكدنا على الصراع الطبقي باعتباره القوة الدافعة المباشرة للتاريخ ، ولا سيما الصراع الطبقي بين البرجوازية والبروليتاريا باعتباره الرافعة الكبرى للثورة الاجتماعية الحديثة ... لقد صغنا صرخة المعركة صراحة: يجب ان يكون تحريرالطبقة العاملة من صنع الطبقة العاملة بالذات». (رسالة تعميم الى أوغست بيبل وولهلم ليبكنخت وولهلم براكه وغيرهم – 17/18 ايلول 1879).
تاسع عشر
قدمت ثورة 1905 في روسيا القيصرية ما كانت روزا لوكسمبورغ بحاجة اليه. في عام 1906، كتبت لوكسمبورغ كتيبها الرائع “الإضراب الجماهيري والحزب السياسي والنقابات العمالية”.
حيث قارنت، في ضوء النضالات التي أدت إلى ثورة عام 1905، بين فترات التطور الرأسمالي “الطبيعي” السلمي، حيث يتم شرعنة وتكريس الانقسام بين النضالات السياسية والاقتصادية في منظمات مختلفة، وكلاهما خارج السيطرة المباشرة للجماهير، وبين فترة الإضراب الجماهيري الحديثة. كان التناقض بين الحركة في ألمانيا والحركة في روسيا حادا للغاية. ما كشفته الإضرابات الجماهيرية على امتداد الإمبراطورية القيصرية كان بديلا عمليا لنزعة الحركة الألمانية المحافظة، في شكل نضال شعبي كان اقتصاديا وسياسيا في آن واحد، ومن خلاله، وبسبب ادارته من قبل الجماهير نفسها، نمت قواها التنظيمية والفكرية والثقافية. ترسم لوكسمبورغ صورة حية لحركة كاملة يتم تمييزها في وقت واحد إلى مستويات وأقسام مختلفة، تتفاعل جميعها مع بعضها البعض، وتتقدم وتتراجع مع فوز وخسارة أقسام معينة. وتقترح أن مثل هذه الحركة تقدم رؤية لما قد تبدو عليه الثورة الحديثة.
إحدى سمات هذا النوع من الحركة هي التعبئة الذاتية لأعداد كبيرة من الأفراد “السلبيين” و “غير المنظمين” سابقا في أشكال مختلفة من الفعل الجماعي، بدءا من الغمغمة تعبيرا عن عدم الرضى إلى الإضراب والتظاهر.
هذا هو الذي يوسع ويعمق الحركة الاجتماعية، ويجعلها ذات احتمال ثوري. ما تسجله لوكسمبورغ وتحتفي به هو التحول من حالة واحدة من “الحركة الاجتماعية” - مجزأة وضيقة ونخبوية ومحتواة في العديد من أشكالها - إلى حالة أخرى، حيث تتفاعل الأجزاء بشكل مباشر، وتلعب المبادرات والإبداع من الأسفل دورا أكمل، حيث يتم توسيع مساحة استيعاب كل الميول التي يطرحها الأفراد العاديين. نعم ستكون الحركة متنوعة، لكن أشكال عملها تجعلها وحدة واحدة.
يمثل كتيب لوكسمبورغ أول تحليل للديناميكيات الداخلية لحركة إضراب جماهيري حديثة، يحتمل أن تكون ثورية، أو ما نطلق عليه اليوم موجة أو انتفاضة أو حراك جماهيري. فالعديد من الظواهر التي توردها لوكسبورغ ستظهر مرة أخرى، بشكل أوسع، في الحركات اللاحقة وفي أجزاء مختلفة من العالم: عمليات الانتقال بين المطالب السياسية والاقتصادية وتوليفها، والتوسع السريع للحركة بين الفئات السلبية وغير المنظمة سابقا، والتغيرات الدراماتيكية في الأفكار الشعبية، إلخ.
لينين نفسه يصف هذا النوع من الحركة الثورية بأنها “مهرجان للمضطهدين”.
ان كتيب لوكسمبورغ هو وثيقة تأسيسية لـ “الاشتراكية من الأسفل” الثورية التي ناضلت، على مدى العقد ونصف العقد المضطربين الذي أعقب كتابته، من أجل فصل نفسها عن “الاشتراكية من فوق” للأممية الثانية. وهو في ذات الوقت احتفاء واستحضار لشكل جديد ناشئ من النضال الشعبي يعد بتوحيد الممارسة الحقيقية للحركة العمالية الحديثة مع مبدأ ماركس المتمثل في “التحرر الذاتي للطبقة العاملة”.
لم يقترب أحد قبل لوكسمبورغ من فهم الديناميكيات الداخلية للحركة العمالية الثورية: تنوع أجزائها المختلفة والوحدة التي تشكلت بينها من خلال تفاعلها المتبادل. عمليات تنشيط الفئات “السلبية” في البداية مع انتشار الحركة ونموها؛ الآثار المنشطة المتبادلة لوصول الحركة إلى نقطة الانطلاق؛ الحركة ذهابا وإيابا بين أشكال مختلفة من النضال الجماعي؛ والعلاقة العملية المتبادلة بين الفعل الجماعي حول المطالب “الاقتصادية” المحلية الجزئية والعمل الموجه نحو القضايا العامة “السياسية”. لا يوجد شيء ميكانيكي في الطريقة التي يتم بها التعامل مع هذه الأمور، لأن الأمر كله مرتبط بإحساس العامل البشري الذي يمر بعمليات واسعة وحيوية من التحول الذاتي، ونشوء هويات وعلاقات وتفاهمات جديدة، وأشكال تنظيمية جديدة ينبغي تطويرها. إن سرد كيف يعمل الفعل الجماعي الجماهيري نفسه كعامل جذب للكثيرين الى الحركة هو تطور ديالكتيكي غير عادي، مرتبط بإحساس التحول في “سيكولوجية” الناس المعنيين: الشعور بـ “الفرح” و “المهرجان”، و “الفخر” بالمشاركة في هذه النضالات. أولئك الذين قد يصفهم الآخرون من خارج العملية التاريخية على أنهم “متخلفون” و “سلبيون” تكشف لوكسمبورغ أنهم ليسوا فقط قادرين على أن يكونوا نشطين وقادرين على تغيير انفسهم بارادتهم، بل سيكونون عناصر تنشيط حاسمة في عملية ثورية قادمة. وتصر على ما يلي:
“أن الثورة شيء غير سفك الدماء وأكثر من سفك الدماء.
فالتفسير الاشتراكي العلمي يرى في الثورة، قبل كل شيء، تصحيحا داخليا كاملا للعلاقات الطبقية الاجتماعية، وذلك على العكس من التفسير البوليسي الذي لا يرى في الثورة غير اضطرابات شوارع وشغب أي “اخلال بالنظام”» (لوكسمبورغ،” الإضراب الجماهيري والحزب السياسي والنقابات العمالية”1906).
هناك عملية اجتماعية إبداعية هائلة تجري داخل الإضرابات الجماهيرية، يمكن من خلالها رؤية خطوط شكل جديد من المجتمع في عملية “صنع” جماعية تفاعلية نشطة. ولا يحدث ذلك بشكل مجرد، بل في إطار تاريخي محدد ومتغير، حيث يكون تطور الحركة مشروطا في الوقت نفسه بتفاعلها المستمر مع حلفائها الفعليين والمحتملين وخصومها، مع تحالفاتهم وانقساماتهم الخاصة. إذا ما كنا قادرين على رؤية كل هذه الظواهر في سلسلة كاملة من الحركات الثورية طوال القرن الماضي، فإن علينا أن نعترف بأن روزا لوكسمبورغ هي أول من علمنا رؤيتها.
النساء والانتفاضة العراقية: التفاوت والفضاء ضمن آفاق نسوية
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومعهد الدوحة للدراسات العليا العدد السادس والأربعون (خريف 2023) من دورية عمران للعلوم الاجتماعية. وتضمن العدد، من بين موضوعات هامة أخرى، دراسة لأسماء جميل رشيد وزهراء علي بعنوان (النساء والانتفاضة العراقية: التفاوت والفضاء ضمن آفاق نسوية).
تستكشف الدراسة معنى مشاركة النساء في انتفاضة تشرين 2019 ومضمونها وأهميتها، من خلال تقديم رؤى نقدية تساعد على تفسير أوضاعهن المعقدة في العراق، وتحليل السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وانعكاساته على حياتهن بما في ذلك التفاوتات الجندرية. وتضع الدراسة مشاركة النساء في حركة الاحتجاج ضمن واقعها التاريخي والاجتماعي، وتستكشف معنى هذه المشاركة ومضمونها وأهميتها من منظور الاقتصاد السياسي النسوي. ثم تجادل بأن الانتفاضة، بوصفها ظاهرة حضرية في الغالب، أنتجت فضاء اجتماعيا بديلا تحدى فضاء حضريا معسكرا ومخصخصا وذكوريا. أخيرا، تحاول الدراسة فهم غياب الأجندة النسوية، وتزعم أن الإطار السائد الذي كان متاحا للنساء هو أن يضعن مشاركتهن في إطار القومية بدلا من النسوية، بحيث يستطعن أن ينتزعن حق المشاركة أسوة بأي مجموعة اجتماعية أخرى؛ لذلك لم تكن مشاركتهن الواسعة محددة بالجندر، بل شاملة وتحويلية حتى تمنحهن الفرصة للمساومة مع الأبوية السائدة.