ما العمل في حال تعذّر تحقيق هدف من الأهداف أو مهمة من المهمات؟ جواب لينين: عود على بدء. يجدر التوقف عند الطريقة التي فكر بها قائد ثورة أكتوبر بالانعطاف الكبير الذي دعا إليه في العام ١٩٢٢ معلنا اختتام مرحلة «شيوعية الحرب»، المتوافقة مع الانتصار في الحرب الأهلية بأكلاف استثنائية، وافتتاح مرحلة «السياسة الاقتصادية الجديدة» التي أعيد بموجبها العمل ببعض آليات السوق وسُمِح بأشكال معينة من الملكية الفردية.

في نصه القصير «ملاحظات داعية» - المكتوب في شباط/ فبراير من العام ١٩٢٢ - استخدم لينين تشبيهَ متسلّق الجبال المضطر إلى العودة أدراجه بعد محاولة أولى لبلوغ قمة الجبل وذلك لوصف ما الذي يعنيه التراجع في المسار الثوري من دون خيانة القضية انتهازيا.

«لنتصور رجلاً يرقى جبلاً مرتفعا وسليطا وغير مكتشف من قبل. ولنفترض أنه قد تجاوز مصاعب ومخاطر غير مسبوقة ونجح في بلوغ نقطة أعلى من تلك التي بلغها أيٌ من سابقيه، لكنه مع ذلك لم يصل إلى القمة. يجد نفسه في وضع لا يقتصر الأمر فيه على مواصلة الصعود في الاتجاه وفي المسلك الذي اختاره وحسب، لكن بات الصعود مستحيلاً بالمطلق أيضا».

ويضيف لينين عن متسلّق الجبل:

«إنه مضطر للعودة أدراجه، للنزول، والبحث عن مسلك آخر، لعله سيكون مسلكا أطول، لكنه مسلك سوف يمكّنه من بلوغ القمة. وربما تبين أن نزوله من ارتفاع لم يبلغه أحد قبله أخطر وأصعب بالنسبة لرحّالتنا المتخيل مما كان صعوده - فأسهل عليه الانزلاق؛ وأصعب عليه أن يجد موطئ قدم؛ أما النزول فليس مثيرا للبهجة، تلك البهجة التي يشعر بها المرء وهو يصعد قدما إلى أعلى نحو الهدف، إلخ. على المرء أن يلف حبلا حول جسمه/ خصره، وعليه أن يقضي ساعات يستخدم فيها كامل عدة صعود الجبال ليستطيع حفر موطئ قدم أو ليجد نتوءا يربط الحبل فيه بإحكام؛ وعليه أن يتقدم ببطءِ حلزونة وهو يتحرك باتجاه النزول، بعيدا عن الهدف؛ وهو ليس يدري أين سينتهي به هذا النزول بالغ الصعوبة والمشقة، وما إذا كان ثمة عطفة آمنة تمكّنه من أن يصعد بحزم أكبر وبسرعة أكبر وعلى نحو أكثر مباشرة إلى القمة...

مع ذلك يختم لينين النص بقوله إن المجاز ليس بمثابة برهان، فـ«كل مجاز أعرج». («دروس الأزمة»، الأعمال الكاملة، الجزء ٢٤).

يطرح لينين فكرتين رئيستين حول الشعارات.

الفكرة الأولى - لا يكفي أن تكون الشعارات صحيحة، يجب أن تفهمها الجماهير.

تبدو صحة الشعارات ووضوحها في حالة الثورة الروسية مضمونة، لأننا أمام حالة نادرة حيث الشعارات صحيحة بسبب صدورها عن الجماهير وتلخيصها ما عبّرت عنه وهي في ذروة الفعل الثوري. لقد التقى التحليل النظري، وتعيين تميّز «الوضع الراهن»، وما يترتب عنه من تحالف قوى ومهمات ووسائل نضال، مع ما عبّرت عنه الجماهير خلال التظاهرات والإضرابات في ثورة شباط/ فبراير، وعلى رأسها ربات البيوت والعمال والجنود: الاحتجاج على بؤس الأحوال المعيشية، رفض مواصلة الحرب، والتصميم على إسقاط النظام الاستبدادي القيصري. وقد تحولت هذه إلى الشعارات الثلاثة للثورة بسبب صحتها والوضوح، وتعدّت الحزب البلشفي الذي صاغها لتصير الشعارات - الأهداف لمجمل الحركة الاشتراكية والعمّالية والمجالس الشعبية التمثيلية - «خبز، سلم، حرية». وتكثّف في ذلك الثالوث تعيين أهداف الثورة ووسائل التوعية والتعبئة والحشد لتحقيقها في آن معا. لكن هذه الحالة هي الشواذ الذي يثبت القاعدة ولا يبطلها. أي أنها لا تلغي الحاجة إلى بناء الصلة المباشرة بين عدة عمليات فكرية: التحليل الاجتماعي- السياسي، تقدير الوضع الراهن، واستنباط الشعارات - الأهداف الملائمة من منظار الطبقة الأكثر تقدمًا وجذرية.

الفكرة الثانية - يجب أن تخضع سائر الشعارات للشعار الرئيس.

»كل السلطة للسوفييت» هو الشعار الراهن المعد للتنفيذ. وإخضاع سائر الشعارات له مفهوم في هذه الحالة لأن تنفيذ الشعار هو الشرط اللازم لتحقيق سائر الشعارات. لكن هذه القاعدة موجهة لحالات تتعدد فيها الشعارات، الأمر الذي يستوجب تعيين أولويات بينها.

«الدكتاتورية الديموقراطية للعمال والفلاحين»

يبدو عنوان النظام الجديد والسلطة الجديدة متناقضا. وهو كذلك. إنه مبني على مفهوم التفاوت بين البناء التحتي والبناء الفوقي الذي بلوره لينين في سجاله مع النزعة الاقتصادوية التي تقول بمرحلتَي الثورة. ومعادلة «روسيا المتخلفة اقتصاديا والمتقدمة سياسيا» هي التعبير المحلي عن هذا التفاوت. فيكون هدف الثورة أن تتولى روسيا المتقدمة سياسيا قيادةَ روسيا المتخلفة اقتصاديا نحو التقدم. وهو المفهوم الذي يتحكم بتعريف الثورة المنتصرة، أهدافها، قواها، مؤسساتها ووسائلها.

بُعيد سقوط الحكومة المؤقتة، بدأ لينين خطابه الأول أمام سوفييت بتروغراد بإعلانه «الآن سنبدأ في بناء المجتمع الاشتراكي». لم يباشر ببناء المجتمع الاشتراكي. عيّن له تحليله للدولة والمجتمع في روسيا القيصرية التي انهارت، ولديناميات وحدود قوى الثورة، وأيضا تبين له من إدراكه التفاوت بين البناء التحتي والبناء الفوقي، أن «تخلّف» روسيا الاقتصادي يقتضي على السلطة القائمة باسم العمال تنفيذ العدد الأكبر من المهمات المسمّاة «ديموقراطية»، أي تلك تصفّي بقايا العهد القيصري الإقطاعي الاستبدادي وهي المهمات التي تنسب نظريا على أنها واجبة التحقيق في ظل صعود البرجوازية إلى السلطة أو التي تتحقق في ظل سلطتها. على أنه، في مجرى التاريخ الفعلي، نادرا ما تم تنفيذ تلك المهمات البرجوازية والديموقراطية المفترضة بواسطة السلطة البرجوازية، أو أنها نُفّذت جزئيا أو فُرض تنفيذها على البرجوازية بالنضالات الشعبية والثورات المديدة. فإذا أخذنا إجراء واحدا من الإجراءات الديموقراطية الأساسية، الذي هو الحق في الاقتراع العامّ، قد رفعته الحركات الشعبية في بريطانيا شعارا لها منذ القرن السابع عشر للرجال فقط خلال ثورة ١٦٤٢ والحرب الأهلية التي أعقبتها، وتبنته الحركة العمالية مطلبا سياسيا رئيسا لها وناضلت من أجله في القرن التاسع عشر بقيادة الحركة الشارتية خصوصا. لكن هذا المطلب لم ينفّذ إلا مطلع القرن العشرين في العام ١٩١٨ للرجال من دون شروط ملكية، ولم يشمل النساء إلا بعد عقد من الزمن. كذلك الأمر، أعلنت الثورة الكبرى في فرنسا حق الاقتراع للرجال في دستور العام ١٧٩٢ في ظل سيطرة اليعاقبة على الثورة، لكنه لم يطبّق بعد سقوط الثورة. ولم يتحقق هذا الإنجاز الديموقراطي إلا تحت ضغط ثلاث ثورات - ١٨٣٠، ١٨٤٨ وعاميّة باريس ١٨٧١. فقد أعلنت ثورة ١٨٤٨ حق الاقتراع للرجال، ثم ألغي في الردّة التي أعقبتها، ونفذته عامية باريس، مع حذف الشروط الملكية التي كانت تلازمه، ثم سقط الإجراء مع هزيمة العامية. واقتضى الأمر عقودا من النضالات الشعبية ليُستكمل الحق في الاقتراع في العام ١٩٤٤ عندما شمل حق الاقتراع للنساء.

مهما يكن، يفسر لينين مفهوم «الدكتاتورية» على أنه حكم الأغلبية المجالسية. وفي دفاعه عن هذه الصيغة للسلطة السياسية، يساجل ضد ما يسميه «الوهم النموذجي للبرجوازية الصغيرة» وهو فكرة «الأغلبية». يقول عنها إنها فكرة غامضة، ذلك أن الأغلبية ذاتها قد تغيرت بعد ثورة شباط/ فبراير. في الوضع الثوري الجديد، لم تعد الأكثرية الانتخابية - النيابية في مجالس الدوما هي مقياس الشرعية الشعبية، لأن أجهزة تمثيلية شعبية مباشرة وبديلة قد نشأت، هي مجالس السوفييت. والأغلبية الواجب كسبها موجودة في مجالس السوفييت. لكن الأخيرة، قياسا إلى مجموع سكان روسيا، أقلية، وإنْ تكن مجالس فاعلة وتضم أوعى العناصر من عمال وفلاحين وجنود. كيف حلّ هذه المفارقة؟ يحلّها لينين على هذا النحو: مجالس السوفييت أقلية تمثل الأكثرية، لأنها تمثل الأكثرية الفعلية، ويقصد بها الأكثرية السكانية العددية. والأهم أن ما يجعل التمثيل المجالسي حقيقيا هو طابعه المباشر. العمال والفلاحون والجنود يمارسون فيه سلطتهم مباشرة على مندوبيهم من خلال حقهم في نزع الثقة عنهم واستبدالهم في أي وقت.

يبقى أن شرط تحقيق التمثيل الحقيقي للأكثرية الحقيقية، وفق لينين، هو انضمام غالبية البرجوازية الصغيرة إلى الطبقة العاملة في اللحظة الحاسمة والمكان الحاسم. فهذه هي الحليف الرئيس و«الخصم الأيديولوجي» الرئيس للطبقة العاملة في آن. أما اللحظة الحاسمة فكانت انحياز غالبية البرجوازية الصغيرة إلى الطبقة العاملة في شهر أيلول/ سبتمبر بعد هزيمة مؤامرة كورنيلوف، عندما استطاع الحرس الأحمر البلشفي منع سقوط الجمهورية في وجه جيوش الجنرال القيصري.

يكتسب مفهوم «ديموقراطية» عند لينين معنيين رئيسين: تصفية المؤسسات والقوانين والإجراءات والقيود التابعة للنظام القيصري الإقطاعي من جهة، وتحقيق المساواة السياسية والقانونية بين المواطنين والاعتراف بحق شعوب روسيا في تقرير المصير، من جهة أخرى. ومن أبرز الإنجازات الديموقراطية التي حققتها السلطة السوفييتية الوليدة، والتي نادرا ما يتمّ ذكرها فهي:

الاقتراع العام، بما فيه حق الاقتراع العام للنساء. ولم يقتصر الأمر على هذا بل كانت روسيا السوفييتية أول دولة في العالم تعيّن امرأة في منصب وزاري، هي ألكسندرا كولونتاي، المناضلة الشيوعية والنسوية؛

إعلان حق تقرير المصير لقوميات وإثنيات ومذاهب روسيا في ظل نظام اتحادي؛

فصل الكنيسة عن الدولة؛

اعتماد نظام مدني للأحوال الشخصية؛

إطلاق حملة لمحو الأميّة؛

تحقيق ديموقراطية التعليم؛

عدم التمييز بين أطفال وُلدوا خارج الزواج وأطفال وُلدوا داخل الزواج؛

إلغاء القوانين التي تمنع الإجهاض وتلك التي تفرض عقوبات السجن على المِثليين، إلخ.

تعرض هذا المفهوم البلشفي للسلطة، والممارسات التي ارتبطت به، إلى الكثير من النقد في الحركة الشيوعية والاشتراكية داخل روسيا وخارجها. من أبرز النقاد القائدة الشيوعية الألمانية روزا لوكسمبورغ التي كانت في طليعة من أيّد ثورة أكتوبر. وروزا صاحبة مفهوم للديموقراطية الاشتراكية لخصته في معادلة شهيرة «الحرية لأنصار الحكومة فقط، لأعضاء الحزب الواحد فقط - مهما كان عددهم - ليست حرية على الإطلاق. الحرية هي دوما وحصرا حرية الذي يفكر على نحو مخالف». وقد برر لينين وليون تروتسكي الأمر في ردهما على روزا بحجة أن نمط السلطة السوفييتية تفرضه ظروف روسيا المتخلفة.

بعد تبني «السياسة الاقتصادية الجديدة»، في ختام الحرب الأهلية ونهاية مرحلة «شيوعية الحرب»، تحولت مهمات «الدكتاتورية الديموقراطية للعمال والفلاحين» إلى تحقيق التراكم الأوّلي لرأس المال، أي أن مهمة السلطة السياسية المتقدمة باتت مهمة انتشال روسيا من تخلفها، وهو هدف تنموي تحديثي، الأمر الذي دفع لينين إلى إعادة تعريف الشيوعية على أنها «سلطة المجالس وكهربة روسيا».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجلة “بدايات” – العدد 34 – 2022

عرض مقالات: