لنتفق في البداية على ان الطرق والاشكال التي اتبعتها الأحزاب الشيوعية والعمالية، ولغاية اليوم، كمقاربة لانجاز مهمات المرحلة الانتقالية وتحقيق الانتقال الى الاشتراكية، لم تكن ناجعة أو مجدية. وكان من أكثرها صدى وعمقا انهيار نموذج التجربة السوفيتية في بداية تسعينيات القرن لماضي نتيجة تفسيرات غير علمية او لاهداف سياسية خاصة بعد تصاعد حركات التحرر الوطني ارتباطا بتداعيات النظام الكولونيالي التقليدي في القرن العشرين.
ولا يمكن ان نلقي اللوم هنا على كارل ماركس (1818- 1883)، الذي ولد في مدينة ترير الألمانية قبل 205 أعوام، والذي انصب اهتمامه على بناء منظومة فكرية من الفلسفة والاقتصاد السياسي، وبشكل خاص في تشريح ديناميكية النظام الرأسمالي اقتصاديا واجتماعيا، وعلى ربط الجانب النظري بالممارسة لإقامة منظمة ثورية موحدة لاستنهاض قوى وقدرات الطبقة العاملة وحلفائها من اجل تحقيق الحلم الإنساني لبناء نظام انساني اكثر عدلا، ينهي مظاهر الاغتراب والتشيؤ اللذين كتب عنهما في أعماله الفلسفية الأولى التي تم جمعها ونشرت تحت عنوان (مخطوطات 1848). الأكثر من ذلك ان الازمات الدورية للنظام الرأسمالي، وهو ما تنبأ به ماركس، مازالت مستمرة على الرغم من القدرة والمرونة التي تجلت على تجاوزها عبر التكيف والعولمة. ولكن هذا النظام مازال يواجه أزمات متلاحقة لم تحد منها أوهام ممثليه السياسيين بأنه أبدي ويمثل نهاية التاريخ، وقد ذهبوا بعيدا في تصعيد العسكرة والعدوانية وخوض الحروب. كما لم تتكون منظومة فكرية موحدة عما سمى «ما بعد الماركسية»، وهي مجرد عنوان فضفاض لسرديات مختلفة ومتباينة، هي نتاج حركة نخبوية تمتد جذورها الى ظهور «الماركسية الغربية» بعد انتصار الثورة الروسية في 1917 وانهيار الأممية الثانية ( 1889-1916) التي كانت تحالفا لعدد من الأحزاب الاشتراكية والعمالية في الغرب. ان استخدامها كيافطة فضفاضة لا يعنى نفيها بل تأتى في سياق بعض من يطلقون على انفسهم ماركسيين، والذين علق ماركس على من سبقهم في 1880 بقوله الشهير «اذا كان هؤلاء ماركسيين فأنا لست ماركسيا».
الاجتهاد الفكري والنظري للوصول الى منظومة فكرية متجددة ما بعد ماركس هو مشروع واقعي وموضوعي وضروري، لان أفكار وتراث ماركس كانا نتاج مرحلة تاريخية مر عليها أكثر من قرن ونصف. فقد كان ماركس «بروميثيوس“ القرن التاسع عشر الذي اعطى البشرية فكرا وأملا، الا انه لم يكن كلي القدرة. فمثلا لم يتسم تنبؤه حول قيام اول ثورة اشتراكية في ألمانيا بالدقة، وكتاباته الأولى حول «الاغتراب» اخذت الجانب الفلسفي في وقت لم تكن علوم الطب النفسي السريري كما هي عليه الان في تشخيص عشرات الحالات النفسية التي تصيب الانسان نتيجة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية والحياتية. ولكن يبقى التراث الماركسي هو الأساس الذي يتم الاستناد اليه في تحديد المنهج الديالكتيكي في التحليل وتطوير نظرية يتم اختبارها في الواقع الموضوعي الذي تحدده الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها من تجليات البنية الفوقية، مع الانفتاح على ما هو جديد في العلوم الطبيعية والاجتماعية، وهدفه النهائي هو التغيير الشامل على طريق إقامة مجتمع يحقق الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية والسلام وانهاء استغلال الانسان للإنسان.
ولكن هل نحن نواجه اليوم، فعلا، نهاية الماركسية التي تحتم التحول نحو مرحلة «ما بعد الماركسية» كما توصل عدد من النخب المهتمة بالفكر الماركسي وخاصة من المنظور الاكاديمي والثقافي، وهي نخب يوحدها الابتعاد عن معترك النضال السياسي واليومي ؟ منهم من يرى أن الماركسية شاخت وفقدت دورها التنويري، ولم تعد تعني الأمر ذاته عندما استخدمها، لأول مرة في عام 1879، الاشتراكي الديمقراطي الالماني فرانز مهرنغ ( 1846-1919) لتوصيف أفكار ماركس كسلاح بيد الطبقة البروليتارية الصاعدة من اجل الانعتاق والتحرر الاجتماعي من شرور النظام الرأسمالي. والأكثر من ذلك انها تحولت الى عائق بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لعدم انسجامها وتوافقها مع متطلبات مرحلة ما بعد الحداثة التي جاءت في ستينيات القرن الماضي (مع كل ضبابية المقصود بها فعلا)، ومع التغيرات الجذرية الجديدة في البنية الطبقية المعاصرة للمجتمعات الرأسمالية. وكأدلة على هذه الاستنتاجات يشيرون الى تراجع دور الفوارق الطبقية التي كتب عتها ماركس وتصاعد دور الحركات الاحتجاجية وحركات البيئة والنسوية والجندرية وضد العسكرة والتسلح وغيرها مما شمل المجتمعات الغربية وبلدانا على اطراف النظام الرأسمالي في اسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية.
مقابل ذلك يرى أخرون ان الطريق مفتوح، اليوم، وأكثر من السابق، امام تجديد الماركسية كمنظومة فكرية هدفها تغيير المجتمع ثوريا بالضد من سرديات ما بعد الحداثة التي تغلبها روح الاستسلام القدرية والتشاؤم بإمكانية تغيير العالم.
وتشيع الاوساط النخبوية الداعمة لمشروع «ما بعد الماركسية الحداثوية» ان الصراع الاجتماعي الذي يعكس مصالح طبقية محددة بالمفهوم الماركسي لم يعد قائما في القرن الحادي والعشرين وان مرحلة ما بعد الحداثة فتحت آفاقا رحبة تتيح وضع الماركسية على الرف في مخزن التاريخ بسبب غلبة التعددية الاجتماعية والثقافية التي خلقت نظاما سياسيا اكثر تعبيرا عن الحريات الفردية من الشمولية التي رافقت البناء السياسي للاتحاد السوفيتي السابق ومحاولة تغيير العالم عبر الموضوعة التطورية لحتمية انتصار الاشتراكية.
وكبديل اعتماد مقومات سياسية وأخلاقية ومعرفية جديدة تعتمد التحرر الاجتماعي من خلال التفاهم والحوار والاتفاق على ما يضمن تطور نظام اجتماعي مستقبلي يضمن الوفرة والمشاركة المجتمعية وأنسنه التكنولوجيا.
ويطلق على هذا التوجه أحيانا «الخيار الثالث». والمقصود هنا خيار بديل عن اطروحات اليمين واليسا في الماركسية الغربية يشكل القاعدة الفكرية لحركات اجتماعية جديدة تؤمن بثلاثة مبادئ هي الحرية للجميع، وبناء مجتمعات ديمقراطية، وتحقيق النمو الاقتصادي المستدام الأخضر، والتي تتحقق عبر التضامن المجتمعي وآليات النصح والارشاد والتوافق الطبقي، وتخلق اشكالا جديدة من التعايش تفسح المجال للأفراد والمجتمعات والمنظمات في ان تلعب دورها عبر الحوار والتواصل الديمقراطي ومستوى مناسب من الوفرة المجتمعية لخفض معدلات الفقر الكبيرة والتصدي للعنف كآلية لحل المشاكل الإنسانية والمجتمعية.
ويعتبر هذا تلخيصا ليسار مرحلة ما بعد الحداثة يطلق عليه “ما بعد الماركسية» التي وجدت طريقها في النشر الاكاديمي للمعاهد التي كانت مهتمة سابقا بدراسة وتحليل المجتمع والاقتصاد السوفيتي. ويلاحظ اخرون ضرورة خلق ماركسية جديد تمثل مرحلة ما بعد الحداثة تتجاوز أيضا التأويلات التي قدمتها الماركسية الغربية.
ومع أن الاشتراكية لا تقرع الأبواب اليوم لسبب جوهري هو ان مفهوم ومعنى الاشتراكية كمنظومة فكرية ونظام سياسي واقتصادي بحاجة الى بحث معمق للكشف عن القوانين الداخلية المتحكمة بها وعن المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية والروحية التي سترافقها.
والأهم اليوم معرفة اشكال ومميزات المرحلة الانتقالية، العامة والخاصة، التي ترتبط بالبنية الطبقية وتوازن القوى في البلدان المختلفة (المتطورة صناعيا او تلك التي مازالت تعاني من حالات التخلف بعد خروجها من النير الكولونيالي).
إلا ان جوهر التوجه نحو الاشتراكية مازال قائما ومستمرا منذ ما قبل ماركس في القرن التاسع عشر.
ولكن ما نشهد، اليوم، أيضا، هو انبثاق تيارات فكرية تعيش وتتحرك وتنمو في الفضاءات الرقمية، أشبه بتلك التي سادت عندما انتشرت أفكار الاشتراكيين الطوباويين، وفي جوهرها النزوع الى إقامة نظام انساني عادل وأخلاقي يحمى حرية وحقوق الفرد والمجتمع ككل ويحقق المساواة والعدالة الاجتماعية الحقة.