الآن نأتي إلى التطور التكنولوجي، ومجيء عصر الروبوتات والذكاء الاصطناعي، الذي يطلق عليه عصر الآلة الثاني. بدأ عصر الآلة الأول مع الثورة الصناعية، وشمل الآلة البخارية، ومن ثم الكهرباء، ومحرّك الاحتراق الداخلي الذي أعطانا القطارات والطائرات والسيارات وجميع الوسائل التي تعتمد على مزيج من المحركات والكهرباء كالغسالة وغيرها. بالطبع كان ماركس منظّر عصر الآلة الأول، ورأى في التطور التكنولوجي أساساً لتطور المجتمع وأنماط الإنتاج، وكان حتمياً تكنولوجياً، فقال: «طاحونة اليد تعطيك المجتمع مع الإقطاعي، والطاحونة البخارية تعطيك المجتمع مع الرأسمالي الصناعي».
ما عُرف بـ«الاستقالة الكبرى» بعد جائحة كوفيد-19 في الولايات المتحدة يمكن اعتباره تجسيداً لهذا الاغتراب، ولكن الأهم والأكثر التصاقاً بظهور عصر الآلة الثاني، في شتاء 1857-1858، ما كتبه ماركس في ما عُرف لاحقاً بالمخطوطات أو الـ( الغروندريسه)، وهو كتاب ضخم لم ينشر إلا في العام 1939. في الـ (الغروندريسه) هناك جزء من حوالي عشرين صفحة يُعرف الآن بـ«الجزيء حول الآلات»، يتناول هذا التطور الذي يحدث اليوم، ويؤكد فيه ماركس أن ظهور عصر الآلة الجديد والأتمتة سوف يؤديا إلى أن يصبح العلم والتكنولوجيا في المستقبل مصادر الثروة، ويهمش العمل، ويصبح الوقت الحر أساس الثروة بدلاً من وقت العمل، وسوف يُخلق الفرد الاجتماعي». واليوم، عندما يتحدث التكنولوجيون حول وصول أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى مرحلة الذكاء الاصطناعي العام، أو عندما يتحدث الاقتصاديون عن قرب نهاية عصر العمل، إنما هم صدى للشذرات التي أطلقها ماركس في الجزيء حول الآلات، وهنا في هذه التطورات التي قال عنها ماركس «يعتمد تكوين الثروة الحقيقية بدرجة أقل على وقت العمل وكمية العمالة المستخدمة... ولكنه يعتمد بالأحرى على الحالة العامة للعلم وعلى تقدم التكنولوجيا، أو تطبيق هذا العلم على الإنتاج، فالثروة الحقيقية هي القوة الإنتاجية المتطورة لجميع الأفراد... إذن، لم يعد مقياس الثروة، بأي حال من الأحوال، هو وقت العمل، بل هو الوقت المتاح»، هنا نرى التناقض الكبير بين الرأسمالية والأتمتة، ويحدث اليوم أمامنا هذا التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج وظهور الحاجة التاريخية للانتقال إلى الاشتراكية لحلها، وبالتالي يمكن أن نكمل قول ماركس: «... أما الطاحونة الروبوتية فتعطيك المجتمع مع الشيوعية».
في هذا الإطار أيضاً، علينا ألا ننسى «جنرال ماركس» فريدريك أنجلز، ففي كتابه (أوضاع الطبقة العاملة في إنكلترا) في 1844، تحدث عن أوضاع الطبقة العاملة في بداية الثورة الصناعية. أسمى المؤرخ البريطاني روبرت آلن هذا التحليل بـ«وقفة أنجلز»، حيث توقف نمو الأجور وذهبت الزيادات في النمو لصالح الأرباح. بعد الستينيات في القرن التاسع عشر، اختفت وقفة أنجلز وزادت الأجور الحقيقية، وهذا استمر لأكثر من مائة عام. إلا أن هذا التحديث التكنولوجي الذي يحصل اليوم من المرشّح أن يعيد «وقفة أنجلز». مارك كارني، المحافظ السابق للبنك المركزي البريطاني، أشار في مداخلة له في العام 2018 حول «مستقبل العمل»، عندما كان مازال محافظاً، إلى عودة وقفة أنجلز في القرن الواحد والعشرين نتيجة التقدم التكنولوجي، قائلاً: «قد يصبح ماركس وأنجلز وثيقي الصلة مرة أخرى».
الحرب الباردة والصين كتجسيدٍ للمادية التاريخية
أما على المستوى السياسي، ما يرسم الوضع العالمي اليوم هو ما يسمّى بالحرب الباردة، وهو ليس صراعاً فقط بين الصين والولايات المتحدة كدول قوية ولديها مصالح اقتصادية في العالم، وإنّما أيضاً صراع أيديولوجي، وهذا الأمر واضح من ناحية الولايات المتحدة، حيث اتخذ الكونغرس قراراً بالتنديد بالاشتراكية في شباط الماضي، بعد أن أصدرت إدارة ترامب في تشرين الأول 2018 تقريراً بعنوان «أكلاف الاشتراكية» لمجلس الاستشاريين الاقتصاديين، وهو أعلى مؤسسة اقتصادية فكرية حكومية ترتبط بالرئيس الأميركي مباشرة. وهذا كله يؤشر عودة وهج الاشتراكية عالمياً، وأيضاً في الولايات المتحدة بين الشباب الأميركي. وفي المقلب الآخر في الصين، فبعد سنوات، ربما، اتخذت فيها الماركسية المقعد الخلفي في خلال الفترة بين 1978 و2012، عادت الماركسية إلى الواجهة بعد وصول شي جين بينغ إلى الأمانة العامة للحزب الشيوعي الصيني. وبعد إصلاحات 1978، حافظت جمهورية الصين الشعبية على نموذج نمو عالٍ ومستقر، وقدمت للعالم نموذجاً تنموياً جديداً في طريقها إلى تحقيق مجتمع اشتراكي حديث في العام 2049. في هذا الإطار، ربما تكون الصين الشعبية اليوم هي المختبر الفعلي للمادية التاريخية، والعمود الأول لفكر ماركس العلمي، كما تحدث أنجلز، إذ تكمن أهمية المادية التاريخية بأنها تحدد الظروف الموضوعية لقيام الاشتراكية والشيوعية، ولم تكن إصلاحات دينغ هسياو بنغ في 1978 إلا تطبيقاً للماّية التاريخية، إذ قال على عتبة إطلاقها: «كان واحدا من أوجه القصور لدينا بعد تأسيس جمهورية الصين الشعبية أننا لم نعطِ اهتماماً كافياً لتطوير القوى المنتجة». يقول ماركس في مقدمة (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي) إنه «ليس هناك من نظام اجتماعي ينتهي قبل أن تتطور القوى المنتجة الملائمة له، ولا تستبدل علاقات الإنتاج الجديدة المتفوقة العلاقات القديمة قبل أن تنضج الظروف المادية لوجودها في إطار المجتمع القديم». في مقال سابق بعنوان «لحظة النيب الحاضرة دوماً»، كتبت أنه بهذا الفهم للمادية التاريخية، أطلق دينغ سياو بينغ الإصلاحات في الصين، التي تضمنت الأسواق والاستثمارات الخارجية وصعود القطاع الخاص، ليس من أجل التخلي عن الاشتراكية، بل من أجل تحقيقها. وأتى اليوم المؤتمر العشرين ليؤكد على ثلاثة أمور مترابطة: الهدف الاشتراكي، والتطور التكنولوجي، واستمرار تطور القوى المُنتجة، والتمسك بالماركسية من أجل بناء دولة اشتراكية عصرية بحلول العام 2049، وبذلك تكون مسيرة الصين نحو البناء الاشتراكي طالت على مدى مائة عام.
أكثرية الزيادات في النمو تذهب إلى الأرباح. وكل هذا حصل منذ الثمانينيات زمن هجوم الرأسمال على العمال بعد ما عرف بـ«لحظة فولكر» في الولايات المتحدة. أما في أوروبا، فهناك انطباع عام أن اليسار في أوروبا يتراجع أمام المدّاليميني الشعبوي، ولكن هناك مؤشرات على أن هذا الأمر غير صحيح بالعام. فإسبانيا، لا تزال يحكمها التحالف اليساري وضمنه الحزب الشيوعي. وفرنسا، حقق اليسار فيها أرقاما مرتفعة ويشكل الآن قوة سياسية مهمة. لكن هناك مثالان في أوروبا أريد التركيز عليهما وهما يهماننا من حيث التجربة كشيوعيين في العالم العربي. أولاً، في النمسا حيث يحقق الحزب الشيوعي النمساوي انتصارات متتالية بعد أكثر من ثمانين عاماً من الأفول السياسي، إذ وصل في العام 2021 إلى عمدة مدينة غراس، ثاني أكبر مدينة في النمسا، والتي أصبح يطلق عليها تهكماً أو مزاحاً لينينغراس، وفي نيسان الماضي حصل على 11 في المائة من الأصوات في انتخابات ولاية سالزبورغ. ثانياً، في بلجيكا، يتوقع أن يصل حزب العمال البلجيكي، وهو حزب ماركسي، إلى عتبة أن يصبح ثالث حزب في انتخابات 2024، بعد أن كان في الماضي غير البعيد (قبل 15 عاماً) حزباً صغيراً جداً لا يملك تمثيلاً برلمانياً.
وقد أثارت قوته المستجدة اهتمام مجلة «إيكونوميست» التي كتبت في تشرين الثاني 2021: «في العام 1869، أطلق كارل ماركس على بلجيكا اسم الجنة الصغيرة المريحة، المحمية جيداً، والتي يمتلكها مالك الأرض والرأسمالي والكاهن. في العام 2021، تقدم بلجيكا أفضل أمل في الاتحاد الأوروبي للأيديولوجية التي تحمل اسمه».
أخيراً، لم أتطرق إلى مواضيع العدالة والمساواة. فالأكثرية تأتي إلى الماركسية وإلى الأحزاب الماركسية بحثاً عن العدالة، ولكنهم يبقون من أجل العلم أيضاً، وهنا تكمن راهنيّة ماركس وتتجلّى الأطروحة (11) حول فيورباخ.
ــــــــــــــــــــــــ
*مداخلة ألقيت في ندوة «140 عاماً على رحيل كارل ماركس: في راهنية الماركسيةِ»، بيروت في 11 أيار 2023.