«تظل الماركسية فلسفة عصرنا لأننا لم نتجاوز الظروف التي أوجدتها»

 جان بول سارتر

 كيف يمكن أن نستشرف أو نقيم راهنيّة كارل ماركس اليوم؟ بشكلٍ عام هناك ثلاثة حقول لراهنية ماركس. الحقل الأول، فكري: هل ما زال ماركس دافعاً للفكر الماركسي أو غيره، أو هل يلجأ غير الماركسيين إلى ماركس؟ والثاني، هل من الممكن فهم الواقع اليوم من خلال فكر ماركس؟ والثالث، هل هناك (أو يمكن بناء) حركة أو حركات سياسية أو ربما تاريخية تعتمد الفكر الماركسي ولها فاعلية سياسيّة؟

في الماركسيّة، هذه الحقول الثلاثة مرتبطة من خلال الأطروحة (11) حول فيورباخ «حتى الآن، فسر الفلاسفة العالم بصور متنوعة، لكن المطلوب هو تغييره».

طبعا، كُتِبت الأطروحات حول فيورباخ في العام 1845، وقضى ماركس معظم وقته بعد ثورات 1848 يحاول أن يفسر العالم، وحتى عندما كتب مع أنجلز (البيان الشيوعي) بسرعة هائلة في تلك السنة، كبيان للحزب الشيوعي، كان تفسير العالم أيضاً أساسياً عنده. في مقدمة طبعة جديدة لـ (لبيان الشيوعي) يقول المؤرّخ الماركسي الشهير إريك هوبسباوم إن (البيان الشيوعي) لديه خاصيتان: أولا، رؤيته، حتى في خلال بداية المسيرة المظفرة للرأسمالية، لم يكن نمط الإنتاج نهاية التاريخ بل مرحلة مؤقتة في تاريخ البشرية.

ثانيا، رصده المنحى التاريخي الطويل الأمد للرأسمالية. فعلى الرغم من أن القدرة الثورية الكامنة للاقتصاد الرأسمالي كانت واضحة في تلك الفترة، إلا أن ما حققته البورجوازية في العام 1848 كان أقل بكثير مما أنيط بها من معجزات في المانيفستو. يقول هوبسباوم إن «ماركس وأنجلز لم يصفا العالم كما غيرته الرأسمالية في 1848، بل تنبئا بما كان مقدّرا له منطقياً أن يتغير بواسطتها».

 ماذا اكتشف ماركس؟

هنا علينا أيضاً أن نحدد ما هي معايير علمية ماركس حتى نستطيع أن نحدد راهنيته. فماركس خلافاً للكثير من المفكرين السياسيين والفلاسفة، أرسى نظاماً علمياً محدداً.

في هذا الإطار، يمكننا أن نعود إلى تأبين ماركس من قبل صديقه ورفيقه الفكري فريديريك أنجلز. حينها قال أنجلز «مثلما اكتشف داروين قانون تطور الطبيعة العضوية، اكتشف ماركس قانون تطور التاريخ البشري»، ويضيف أنجلز «اكتشف ماركس أيضاً القانون الخاص للحركة الذي يحكم نمط الإنتاج الرأسمالي الحالي، والمجتمع البرجوازي الذي أوجده هذا النمط من الإنتاج.

ألقى اكتشاف فائض القيمة فجأة الضوء على المعضلة في محاولة حلها، والتي كانت جميع التحقيقات السابقة لكل من الاقتصاديين البرجوازيين والنقاد الاشتراكيين تتلمسها في الظلام». في فكر ماركس أيضاً نظريات حول التسليع والاغتراب، اللذين يبدو أنهما أكثر راهنية اليوم مما كانا في زمن ماركس. فالاغتراب، هذا الإحساس بأنك غريب عن العالم… عن الإنسان الآخر… عن نتاج عملك، تكلم عنه ماركس في (مخطوطات باريس في العام 1844)، ولم يعد إليها لاحقاً. فما عُرِف بـ«الاستقالة الكبرى» أو Great Resignation بعد جائحة كوفيد-19 في الولايات المتحدة يمكن اعتباره تجسيداً لهذا الاغتراب، حيث استقال عشرات من الملايين من الموظفين الأميركيين من وظائفهم لأنهم اكتشفوا التباعد بينهم وبين هذه الوظائف في خلال الجائحة أو ما عناه ماركس بالاغتراب.

يقول هوبسباوم إن «ماركس وأنجلز لم يصفا العالم كما غيرته الرأسمالية في 1848، بل تنبئا بما كان مقدّرا له منطقياً أن يتغير بواسطتها».

إن ما قاله أنجلز يؤشّر جرأة ماركس العلمية، فهو وضع نظرية حول التاريخ، وهذا ما انفرد به ماركس في التاريخ. فقد كان ماركس شجاعاً فكرياً عندما تقدم بنظريّته حول التاريخ والميكانيزمات السببية للانتقال من منظومة اجتماعية إلى أخرى. وحتى فرانسيس فوكوياما الذي أعلن نهاية التاريخ في العام 1992 بانتصار الليبرالية الرأسمالية، ما يعني نهاية المادية التاريخية، تحدث مؤخّراً حول عودة فكرة الاشتراكية وقال بالتحديد في مقابلة في 2018: «يبدو لي في هذه المرحلة أن ما قاله ماركس حول بعض الأشياء يظهر أنه صحيح».

وهناك اعتراف غير الماركسيين بأزمة في الرأسمالية وتعدد النظريات حول الرأسمالية، وحتى لو لم يصلوا إلى مفهوم أن الرأسمالية عابرة، فهم يؤكدون على تاريخية الرأسمالية وأنها تأخذ أشكالاً مختلفة، إن بالتعامل مع التكنولوجيا أو الصراع مع الطبيعة أو مع الأزمة الرأسمالية.

 نماذج «ماركسية» لغير ماركسيين

يبرهن مفهوم فائض القيمة على مكمن الاستغلال الخفي في الرأسمالية، ويضع الصراع بين الرأسماليين والعمال حول الأجر ومدة يوم العمل والتكنولوجيا المستخدمة في صلب التحليل الاقتصادي. لن أدخل في النقاشات حول فائض القيمة وما سمّي بمعضلة التحويل من القيم إلى الأسعار، لكن سوف أشير إلى بعض الدراسات لاقتصاديين غير ماركسيين في الولايات المتحدة حول ما يمكن اعتباره أهمية الصراع الطبقي حول أصل التضخم وحصة العمال من الناتج المحلي. في مقالة علمية بعنوان «التضخم هو الصراع» نشرت الشهر الماضي لاقتصاديين من جامعة شيكاغو ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهما من الماكرو-اقتصاديين الصاعدين الأكثر شهرة في العالم، وضع نموذج حول دور الصراع بين العمال والمؤسسات (إقرأ الرأسمال) والأجور والأرباح في تفسير ظاهرة التضخم في الاقتصاد الرأسمالي، بدلاً من النظريات الأخرى حول زيادة الطلب العام أو طبع العملة أو خفض الفوائد. طبعاً، لم يقدم ماركس الصراع بين العمال والرأسمال حول فائض القيمة كتفسير للتضخم، وهذا يؤكد على أهمية منهج ماركس في تفسير الظواهر الاقتصادية. وهذه الورقة هي بمثابة اعتراف بأن التفسير الماركسي للرأسمالية صحيح على الرغم من أنها تطلق على الاقتصاديين الذين كتبوا في السابق حولها بالاقتصاديين ما بعد الكينزية. وفي ورقة أخرى صدرت منذ حوالي الأسبوعين لاقتصاديين من جامعة ماساشوستس أشارت إلى أن التضخم الحاصل بعد كوفيد-19 ينبع بطريقة تسلسلية، حيث الشركات المركزة والاحتكارية تزيد الأسعار لتعظيم الأرباح، ومن ثم تنتقل إلى حالة «الصراع» بحيث يحاول العمال حماية أجرهم الحقيقي. في هذا الإطار، لا بد من الإشارة إلى الأبحاث والمعطيات التي تشير إلى ترابط تراجع حصة العمال من الناتج المحلي وجمود الأجور في الولايات المتحدة في السنوات الأربعين الماضية مع تراجع في العضوية في النقابات على الرغم من زيادة الإنتاجية في الولايات المتحدة، ما يعني أن أكثرية الزيادات في النمو تذهب إلى الأرباح. وكل هذا حصل منذ الثمانينيات زمن هجوم الرأسمال على العمال بعد ما عرف بـ«لحظة فولكر» في الولايات المتحدة.

 ماركس يعود مجدداً

على الرغم من انهيار الاتحاد السوفياتي، الذي شكل آنذاك ضربة قوية للماركسية، رفض ماركس أن ينتهي، ليس فقط عند الكثير من الأحزاب الشيوعية وإنما في السياقات الفكرية الغربية، وهناك دلالات سطحية ولكنها مهمة، لأنها تعبر عن مدى توسع فكر ماركس وعدم بقائه في الدوائر الحزبية. سوف أعطي سريعاً بعض الأمثلة: في العام 1997، نُشرت مقالة في مجلة النيويوركر بقلم جون كاسيدي بعنوان «عودة كارل ماركس»، ابتدأها من حديثه مع صديق له يعمل في وول ستريت، مركز الرأسمالية الأميركية، الذي أتى على ذكر ماركس قائلاً «كلما قضيت وقتاً أكثر في العمل في وول ستريت كلما تأكدت أن كارل ماركس كان على حق». وبعد أزمة 2008 عاد ماركس بقوة، فأنتجت BBC فيلماً وثائقياً حول ماركس، وكان واحداً من ثلاثة وثائقيات حول جون ماينارد كينز وماركس وفريدريك هايك بعنوان «أسياد المال». وكما ذكرت في مقال «أزمة الرأسمالية اللبنانية: دروس من ماركس»، يقول ريتشارد بوكستابر، أحد أهم الماليين الذين عملوا في الأسواق المالية الأميركية، في كتابه «شيطان من تصميمنا»: «لقد لاحظ كارل ماركس أن النظام الرأسمالي بحاجة إلى توسع دائم للأسواق من أجل المحافظة على الربح. من أجل ان تنجح الرأسمالية عليها أن تتقدّم إلى الأمام عبر تطوير منتجات جديدة أو فتح الأسواق في المستعمرات المتخلفة. إن الابتكار يخلق منتجاً جديداً يسبق الأسواق، أما التوسع الخارجي فإنه يؤمّن الأسواق للمنتجات الحالية.

إن النظرة الماركسية تنطبق حرفياً ومجازياً في آنٍ على الرغبة في الابتكار في المنتجات المالية».

ويضيف بوكستابر أن المستثمرين في سندات القروض الطويلة الأمد كانوا سوقاً «متخلفة» بالمعنى الماركسي، وكان من السهل «استغلالهم» من الذين كانوا يستطيعون أن يستعملوا النماذج المعقدة والخبرات المتخصصة لتطوير مشتقات مبنية على قروض المنازل. «كل ابتكار كان يضيف تعقيداً إلى الأسواق لسببٍ بسيط هو أن التعقيد كان يباع، وهو الذي كان يحقق أكثرية المال».

إذاً، لم يكن مستبعداً أن يعود ماركس بعد العام 2008 لأن نبض الرأسمالية يبين أنه لا يزال ينتج الأزمات، والتي كانت هذه المرة مرتبطة بالابتكار المالي وعميقة جداً. ولولا تدخل الفدرالي الأميركي والحكومة الأميركية والمصارف المركزية والحكومات حول العالم لكانت الأزمة أطاحت بالرأسمالية كما نعرفها.

ولهذا كتب جورج ماغنوس في بلومبرغ في العام 2011 عندما كان لا يزال المستشار الاقتصادي الرفيع في بنك UBS العالمي: «أعطوا كارل ماركس فرصة لإنقاذ العالم».

وأخيراً في العام 2013، نشرت مجلة nature المرموقة مقالاً عن دراسة تبيّن أن ماركس هو العالم الأكثر تأثيراً في العالم وأتى بعده سيغموند فرويد.

وفي مؤشر أكاديمي بحت وهو استعمال (البيان الشيوعي) في التعليم العالي في الولايات المتّحدة الأميركية، وبحسب موقع market watch في العام 2016، فإن كارل ماركس هو الاقتصادي الأكثر قراءة في الجامعات الأميركية، حيث يُستخدم (البيان الشيوعي) في أكثر من 3 آلاف مُقرّر جامعي. بالإضافة الى تلك العينة، أضيف كتاب توماس بيكيتي «الرأسمال في القرن الواحد والعشرين» الذي أصبح الأكبر مبيعاً في العام 2013، والذي أعاد مفهوم القوانين العامة للرأسمالية، وإن كانت ذات علاقة ضعيفة بالماركسية، إلا أن ذلك أعاد مفهوم «الرأسمال» إلى تحليل الرأسمالية، ولذلك استتبع الهجوم عليه من قبل الذين يرفضون وجود قواعد عامة للرأسمالية التي توصل/ دائما، إلى نهايات غير مُحبّبة لها: من ريكاردو إلى ماركس إلى كينز وشومبيتر.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*مداخلة ألقيت في ندوة «140 عاماً على رحيل كارل ماركس: في راهنية الماركسيةِ»، بيروت في 11 أيار 2023.

عرض مقالات: