لم تشهد المانيا طرح إصدارات حول العنصرية، كما هو الحال في الشهور الأخيرة. قالت تاتيانا نيدربيرغهاوس من مجموعة “أنراست” للنشر أخيرا في مقابلة مع مجلة “أنلوزه اوند كريتيك” (التحليل والنقد): “لقد امتد نجاح حركة “حياة السود مهمة” إلى دور النشر.” إن التظاهرات الكبيرة في ألمانيا بعد مقتل جورج فلويد في مينيابوليس في الولايات المتحدة لم تفاجئ الرأي العام فقط، بل ان النشطاء السود والمشهد اليساري لم يتوقعوا مثل هذه التعبئة في الشوارع أيضا. لقد تسرب تصاعد الحركة منذ حزيران 2020 إلى برامج الناشرين، وخصوصا الكبار منهم. وينعكس هذا التصاعد في أرقام المبيعات، ولكن هل سيساهم هذا في تعميق وتوسيع النقاش حول العنصرية؟

الكتب، حتى النظرية منها، يمكن أن تلبي احتياجات مختلفة. بعضها يسبب لك الراحة، والكثير منها يشرح العلاقات المعقدة، والبعض الآخر يمكنك العمل على أساسه. يلبي كتاب مختارات “تنوع الاستغلال” لبافتا ساربو وإيليونورا رولدان مينديفيل (باحثتان ماركسيتان في قضيا العنصرية والهجرة والجندر) الحاجة أيضا، ويتخذ موقفا واضحا. وضعت المحررتان أسسا في صراع فكري، طالما شكلته المناهج النظرية لما بعد الحداثة. في كتابهما تعيدان تنظيم النقاش حول العنصرية، وتتهمان اليسار الحالي بتطوير فهم للعنصرية يتماشى مع الأفكار الليبرالية. وتريدان الكتابة ضد مناهضة العنصرية في الإدارات التنفيذية وفي مكاتب وزراء الدولة، والتي تحاول، بواسطة المزيد من التنوع، جعل الوظائف المحلية والخدمة المسلحة مناسبة للمنافسة الدولية.

التحليل الطبقي نقدا للعنصرية

في الجدل اليساري، ليست هناك قضية، تبدو مشتركة مثل مسألة  العنصرية.  يعتقد جميع الذين يعتبرون أنفسهم يساريين، بضرورة محاربتها والقضاء عليها. لكن لم يتم توضيح أهم سؤالين: من أين تأتي العنصرية، وكيف يمكن القضاء عليها؟ تحاول الباحثتان الرد على ذلك بتحليل ماركسي. لقد بدأتا مساهمتهما المشتركة في المختارات باقتباس لينين “الماركسية كلية القدرة لأنها صحيحة”. ومع ذلك، فالكتاب ليس نتاجا لماركسية لينينيه أرثوذكسية، بل هناك إشارات ذكية لماركس في نظريتهما، التي تعتبر نفسها أممية جديدة. تهدف هذه الأممية إلى إدخال التحليل الطبقي للمجتمع في التناول النظري العنصرية.

في مساهمتها، تعيد  ساربو أصل العنصرية الى ظروف الإنتاج: نشأت العنصرية مع الاستغلال العنيف للمستعبدين والمستعمرين في بداية ظهور الرأسمالية. وظهرت معها النظريات العنصرية كإيديولوجيات متحركة لتبرير الأرباح التي تجنيها عواصم الإمبراطوريات. تشرعن العنصرية، حتى اليوم،  هرمية انتقائية (عرقية) داخل الطبقة العاملة، يستخدمها الرأسماليون لخفض الأجور بناء على لون البشرة وجواز السفر، يتقبلها العمال الميسورون بسهولة، لأنها تمنحهم الشعور بالتميز. عندئذ يؤدي التضامن الحصري بين الزملاء إلى افضليات للبعض واستغلال مفرط للذين، ان جاز التعبير، يحتفظون بلون بشرتهم.

واصلت ساربو بوعي نظريات والتر رودني وإريك ويليامز. لقد كان هناك بالفعل ماركسيون في ثلاثينيات القرن العشرين كرّسوا جهدهم لتحليل الاستعمار والعنصرية، الا ان نهاية الحقبة الاستعمارية، جلبت موجة جديدة من النظريات. حاول رودني، على سبيل المثال، شرح التخلف المفترض لأفريقيا، ووجد ويليامز سبب العنصرية المباشر في تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي. كلاهما كانا في نهاية  الستينيات، من المنظرين الرئيسيين للصراع الطبقي المناهض للعنصرية، في منطقة البحر الكاريبي. وبمساهمتها توفر ساربو أيضا دروسا خصوصية للمنطقة الناطقة بالألمانية في مسائل المناقشات اليسارية.

العنصرية تشرعن الفقر

وراء النظريات التي استخدمتها ساربو هناك تاريخ طويل من الصراع الطبقي. كم من اليسارين في المانيا يعرف ان لندن عاشت أعمال شغب عنيفة، خصوصا في المناطق السكنية للعمال السود. في جنوب وشرق لندن، نظم العمال الهنود والسود احتلال بنايات وإضرابات معا، وكانت العنصرية دائما جزءا من هذه النضالات الطبقية. عندما احترقت منطقة بريكستون في عام 1981، كان ذلك أيضا لأن الطبقة العليا من البريطانيين البيض لم تكن مستعدة للتفاوض مع العمال السود بشأن عنف الشرطة والاستغلال المفرط. لقد كانا الماركسيان رودني وويليامز مصدر إلهام للحركة التي قادت التصعيد في بريكستون.

تبحث ليا بيلون في تاريخ الشرطة الأوروبية وتطرح موضوعة مفادها أن سلطة الدولة قد تم إنشاؤها بالأساس لمكافحة الفقراء، وليس الفقر، وأن الفقر قد أُعطي تبريرا بيولوجيا زائفا للعنصرية. شكلت الدولة ورأس المال تحالف مصالح مصيري، وإنشاء ظروف عنصرية على شكل سوق، وهذا لم يتغير حتى اليوم. تبين عالمة الاجتماع سيليا بوالي كيف أنشأ الاتحاد الأوروبي بنية للاستغلال المفرط في سوق العمل.

أنشأ الرأسماليون والوكالات الحكومية شبكات توظيف وقوانين تخفض الأجور بشكل قانوني وتجعل من الصعب مكافحة الاحتيال في خفض الأجور؛ ربما يكون “مول الفضيحة” في برلين أفضل مثال معروف لمشاريع البناء هذه. تبدو العنصرية كالموسيقى المصاحبة لهذا الشكل من أشكال سوق العمل الرأسمالي. وتأتي مساهمة بيلون قريبة جدا من موضوعة الباحثتين في استخدام التحليل الطبقي لاستكشاف ازدهار الاستياء العنصري.دعاة الفكر العنصري هم في الغالب حركات وأحزاب يمينية. يحلل سيباستيان فريدريش ذلك، عن معرفة، من خلال تحليله لصعود حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف. إن أطروحة العنصرية في مجتمع الجدارة هي أساس نقده للتحليل البرجوازي لصعود حزب البديل من أجل ألمانيا. ووفقا لهذا، فإن عنصرية اليمين هي قبل كل شيء نتاج “أيديولوجية راكبي الدراجات”، حيث تبدي الطبقات الوسطى استعدادها المطلق للأداء في المنافسة نحو الأعلى، وتحاول التهرب من المنافسة مع الأدنى بالتذرع بالانحياز العنصري والقومي. وفق هذه الرؤية يصطف فريدريش مع نظرية الهيمنة لغرامشي. وفقا لنظرية غرامشي، لا يمكن للدولة ورأس المال فقط، لعب دور اكليلي مؤثر في المجتمع، بل أيضا أحزاب اليسار والنقابات العمالية.

بينما تعتمد رولدان مينديفيل، واكثر منها ساربو على ماركس كشاهد على نظرية أساسية للاستغلال والبنية الطبقية، يعتمد فريدريش على ماركسية تضع النظرية الطبقية على أسس مختلفة. في “تنوع الاستغلال”، تتابع الباحثتان بشكل بارز السؤال المشهور: لماذا الماركسية؟ ويمكن طرح سؤال مضاد: أي ماركسية؟ لقد بينت القراءة الشعبية، في السنوات الأخيرة، لغرامشي في الجامعات، في أحسن الأحوال، تعدد المفاهيم الماركسية، وفي أسوئها التعسف. سياسيا، يريد بعض اليساريين الدخول المصانع، ويريد آخرون النزول إلى الشوارع، والبعض الآخر يريد الاشتراك في الحكومة. ربما لن يتحق أمل الباحثتين في تحول ماركسي موحد في مناقشة العنصرية في وقت قريب.

ومع ذلك فالجدير بالثناء أن رولدان مينديفيل وساربو تريدان العودة إلى التحليل الطبقي المعمق للعنصرية. ينطوي تقدهما أيضا على أمل سياسي: مع الاعتراف بتجارب الاضطهاد المختلفة، ينبغي ان  تناضل الطبقة العاملة موحدة. عندئذ تصبح مفاهيم الهوية السياسية غير ضرورية.

دروس 1968

أدى الانفجار الاجتماعي في عام 1968 إلى ازدهار حقيقي للنظرية الطبقية، وخصوصا بشأن الأسئلة المتعلقة بالفئات المهمشة داخل الطبقة العاملة، والتي كانت على راس جدول الأعمال. حتى أن المنظّر النقدي هربرت ماركوز طور مفهوما كاملا للثورة متعلقا بالمجموعات الهامشية، بعد أن شهد انتفاضة ضخمة في أحياء الطبقة العاملة السوداء في الولايات المتحدة في نهاية الستينيات. وفق رؤيته، ان الطبقة العاملة السوداء، كانت قادرة على القيام بذلك لأنها كانت قليلة الاندماج مع إيديولوجيات المجتمع ومكافآته: لم يكن لدى العمال السود ما يخسرونه، لذا تمكنوا من المخاطرة بكل شيء.

هذه الأطروحة لا تتطلب نظرية اكاديمية: فالاضطرابات التي شهدتها إيطاليا في السبعينيات تظهر أن العنصرية لم تكن سبب الانتفاضات الوحيد. لقد كانت القوة الدافعة للانتفاضة هي العمال القادمين من جنوب البلاد، والذين بالكاد ارتبطوا بالحزب الشيوعي والنقابات في شمال إيطاليا، لكنهم حرضوا على صراع طبقي جذري في المصانع. وهذا يؤشر الى إن وحدة الطبقة، التي تبحث عنها الباحثتان في “تنوع الاستغلال” تشكل أحيانا عقبة أمام الانتفاضة. وكما كان الحال في إيطاليا، يمكن أن يكون الافتقار إلى الاندماج في الأجهزة القديمة للحركة العمالية هو الذي ينتج مقاومة ضد الوسطية والرضى عن البرامج الحكومية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عن عرض لكتاب نشر في جريدة “نويزدويجلاند” اليسارية الألمانية في 2 تشرين الثاني 2022