تدخل البشرية العقد الثالث من القرن العشرين الذي بدأت تتضح معالمه وخصوصياته مقارنة بالقرن السابق، وأهمها التطور غير المسبوق للثورة العلمية والتكنولوجية التي اطلق عليها لقب الرابعة وما ستحدثه من متغيرات كما ونوعا في نوعية  قوى الإنتاج وتحولات في نظم الإنتاج والإدارة والحوكمة الإنتاجية والاقتصادية. ومن مظاهرها على سبيل المثال رقمنه عمليات التصنيع وتعاظم دور تقنيات الذكاء الصناعي والروبوتات والطباعة الثلاثية الابعاد وحيث تقوم الحاسبات بقدراتها الفائقة بالتفكير والتحليل خاصة في مجال المعطيات والبيانات الرقمية والقدرة على طمس الفوارق بين العالمين المادي و الرقمي يرافقها تطور مماثل في تقنيات النانو وفي العلوم البيولوجية والكيمياء والفيزياء الكمية وتكنولوجيا الجينات وعلوم الفضاء على سبيل المثال.                                                                                                   وقد وفرت الثورة الصناعية الرابعة فرصا هائلة لتحقيق الخيرات المادية للبشرية والخلاص من الفقر والجوع والامراض الفتاكة. الا ان ما نشهده مغاير كليا حيث تستخدم في خدمة الطبقات البرجوازية ذات الأشكال المتعددة، ولكن يجمعها هم واحد هو اكتناز الثروات من مال وعقار وانفاق عسكري متزايد على أسلحة الدمار التي تزداد فتكا وشن حروب لتغيير الأنظمة تحت ذريعة حماية الامن القومي واستمرار هيمنة القطب الواحد التي شهدها العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في أواخر القرن العشرين والذي يزيد موضوعيا من مخاطر الانزلاق الى حرب عالمية ثالثة تستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل النووية والبيولوجية.

ويرافق هذا التطور في القوى المنتجة تغيرات في اشكال علاقات الإنتاج والتي تنسجم معها متغيرات تدريجية في البنية الفوقية التي تتجلى بمنظومات سياسية وفلسفية وثقافية واخلاقية وروحية لان أسلوب الانتاج هو شرط العملية السياسية والاجتماعية والعقلية للبشرية.

ومن بين تجليات هذا التغير في البنية الفوقية اتساع العمليات الاحتجاجية المختلفة في جميع  قارات العالم، والنضال من اجل السلام العالمي ومعالجة عواقب الاستغلال البشري للبيئة والاحتباس الحراري ومن اجل اصلاح وتغيير النظم القائمة بالطرق السلمية ومن اجل الديمقراطية وكذلك تحقيق العدالة الاجتماعية عبر استخدام الثروات المادية ليس لإنتاج الأسلحة بل استخدامها من اجل تحسين الأوضاع المادية والاجتماعية للمواطنين عبر تقديم خدمات صحية وتعليمية وتحقيق الضمان الاجتماعي والقضاء على البطالة والفقر. والملاحظ في هذه الاحتجاجات الاعداد الغفيرة التي تشارك فيها  أيضا الحضور الملفت للنظر للطلبة والشباب والنساء.

 ويأتي هذا الاتساع  في النشاط الاحتجاجي الذي يخوضه الملايين من البشر وتحوله الى ظاهرة مجتمعية، نتيجة أسباب عدة منها عولمة الانتاج الرأسمالي وتحرره من كل القيود الأخلاقية والاجتماعية للوصول الى آلية تقلل من حدوث أزمات بنيوية وهيكلية في بنية النظام الرأسمالي كما حدث في نهاية العقد الأول من القرن الحالي، فضلا عن تعاظم الفجوة بين الأقلية البرجوازية واغلبية الشعب من شغيلة اليد والفكر والأوساط الواسعة من العاطلين عن العمل والمهمشين، والدور الذي ادخلته الثورة الرقمية والانترنيت في اتساع استخدام منصات التواصل الاجتماعي التي تسهم في زيادة الوعي الطبقي وتعمل كآليه للاتصال والتواصل والتنظيم والمشاركة في الفعاليات الاحتجاجية، وحيث يتكامل العنصران الهامان المؤديان  الى اتساع وجماهيرية الحركات الاحتجاجية: الأول عدم إمكانية الاستمرار في العيش في ظروف انعدام العدالة الاجتماعية والاضطهاد السياسي والاقتصادي وواقع الازمات التي تعيشها أغلبية بلدان العالم وحيث توصلت العديد من الفئات الاجتماعية الى الاستنتاج من انها لم تعد قادرة على العيش بالطريقة القديمة ذاتها او على تحمل اضطهاد وقمع الطبقة الحكمة ومحاولاتها للتكيف مع الازمات. أما العنصر الثاني فيتمثل في تعمق تسيس هذه الفئات والتحول من الشعور بالاضطهاد الاقتصادي والاجتماعي الى الاستعداد للانخراط في أنشطة جماهيرية لتغيير هذا الواقع من اجل تحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

 وهنا نجد الاختلاف بين أشكال النشاط الثوري في القرن التاسع عشر والعشرين الذي  كانت تقوده مجموعة من الثوريين المحترفين في ظروف العمل السري لتحقيق التغيير عبر العنف الثوري والذي كان تعبيرا عن خصوصيات تلك المرحلة عن الاحتجاجات الجماهيرية في القرن الحالي التي لا تقل ثورية وشجاعة وتضحية عندما تواجه قمع السلطة وتستخدم الطريق السلمي لتحقيق التغيير والإصلاح الشامل من اجل الديمقراطية والمساواة والخدمات والعدالة الاجتماعية.

من الواضح ان متغيرات هذا القرن قد خلقت ظرو موضوعية افضل، وديناميكية مغايرة للتي سادت في القرن العشرين والانتقال من تكتيك الانتفاضة المسلحة او العمل الحاسم الى أسلوب النضالات الجماهيرية الاحتجاجية القادرة على تحقيق تقدم بطيء في مسار صراع على شكل  معارك صغيرة لتحقيق مطالب المحتجين المشروعة ومكاسب تقود في المحصلة الى الهدف الرئيسي عبر فرض هيمنة فكرية ومجتمعية حول مواضيع محددة.  وهي اشبه بما تحدث عنه القائد الشيوعي الإيطالي غرامشي (1891-1973) في حرب المواقع وهو صراع فكري وثقافي لخلق ثقافة مناهضة للبرجوازية تسهم في تعميق الوعي الطبقي وتفضح حقيقة المؤسسات التي تقيمها النظم البرجوازية ومن اجل التغيير يتبدل خلالها المزاج الجماهيري للمنخرطين فيها.

وتلعب منظمات المجتمع المدني دورا في النضال من اجل العدالة الاجتماعية عبر الضغط وبأساليب متنوعة اجتماعية وإعلامية واستخدام أدوات التواصل الاجتماعي والاحتجاجات من اجل تحقيق تقدم ملموس في استئصال الفقر المدقع والجوع والنقص المزمن في التغذية في العديد من بلدان اسيا وأفريقيا. وهو هدف ممكن التحقيق لو تم استخدام المليارات التي تذهب في صفقات التسليح وشن  الحروب ترافقها إجراءات مدروسة ومنسقة تضمن توزيعا أكثر عدالة للموارد  وتدعم الامن الغذائي بدلا من  تقديم المنح القليلة التي تنتهي في جيوب الفاسدين.

وتوكد المقاربة الماركسية واقع أنه عندما يحاول البشر صنع مستقبلهم في ظروف ليس لديهم سيطرة عليها فعليهم استيعاب المضمون التاريخي من أجل عملية صناعة مستقبل اكثر عدالة و ازدهارا ارتباطا بخصوصيات الواقع السياسي والاجتماعي لتشخيص الفرص والإمكانات لتحقيق التغيير، فضلا عن المعوقات التي تعمل كمقاومة سياسية ضد التغيير والإصلاح الشامل.

وقد اكد عدد من الدراسات حول مشاركة الشباب في النضال الاحتجاجي من اجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ان هناك ميلا واضحا باتجاه تبني قضايا اجتماعية والمشاركة في النضال من اجل تحقيقها. كما يلاحظ أيضا توجه البحوث الاجتماعية في الجامعات الامريكية لاحتواء  قضايا تتعلق بالعدالة الاجتماعية في مجالات العنصرية والجنسانية والانسنة. وساهم ذلك في خلق الحوافز لانخراط الطلبة والشباب في النشاطات السياسية والمطلبية، والتي انعكست في التظاهرات الضخمة ضد التمييز العنصري في الولايات المتحدة التي شهدها القرن الماضي، وأيضا في العديد من العواصم، من اجل المساواة في فرص التعليم ومن اجل نظام صحي عادل وأيضا ضد المغامرات العسكرية، مثل المظاهرات الكبيرة ضد احتلال العراق في بدايات هذا القرن.

ان السكون نسبي والحركة مطلقة، والنضال من اجل تحقيق التغيير الشامل والعدالة الاجتماعية يشير الى ذلك،

حيث عبر مواكبة المتغيرات السياسية والاقتصادية والمجتمعية والثقافية التي تتغير باستمرار نجد البوصلة التي تهدي البشرية في نضالها الطويل من اجل عالم عادل افضل والذي لابد أن يتحقق في العراق أيضا.

عرض مقالات: