هل التاريخ الذي نقرؤه هو فعلا التاريخ الذي نحن امتداد له، أو هو ما تشكل به وعينا وعلاقتنا بالماضي، سواء أكان هذا الماضي هو التاريخ الوطني أو التاريخ العربي، الذي نشترك فيه مع غيرنا من العرب وغير العرب؟

أرض التاريخ مليئة بالألغام والفخاخ والمطبات والرمال المتحركة، من يمشي فيه يكون في خطر، وهو معرض للخطأ، ما لم يكن واعياً بالمزالق والمطبات فما بُني عليه التاريخ القائم من محو وحذف وتشطيب، ومن زيادات وإضافات وإقحام لما ليس منه من معطيات وأحداث وقراءات، هي تأويلات، أو تحريفات بالأحرى.

لا يتعلق الأمر بتاريخ الماضي، فالتاريخ الحديث والمعاصر، هما أيضاً، فيهما ما يكفي من المشاكل التي لا حصر لها، ما يعني أن ما نقرؤه، باعتباره تاريخاً، هو تاريخ يحتاج إلى التدقيق والتحقيق، وإلى القراءة والغربلة والتصفية، مثلما تُصفى التربة للعثور فيها على المعادن النفيسة.

دور المؤرخ هو هذا، وهو نفسه دور الأركيولوجي الذي يستقي حججه ووثائقه، وشواهده من طبقات الأرض، من التربة التي يصفيها ويغربلها وينقيها، ليستخلص منها الأثر كما هو، لا كما تتم صناعته وفبركة معطياته، بحسب هيمنة الإمبراطوريات، والسلطنات والممالك والدول.

التاريخ إذن، هو تربة مليئة بالشوائب، ليس عندنا فقط، بل عند الشعوب والأمم قاطبة، ما يجعل التاريخ ناقصاً، مليئاً بالشقوق والثقوب والبياضات، وما يعني أن التاريخ لا يمكنه أن يُكتب دفعة واحدة، فهو طِرْس قابل للحذف والإثبات، وقابل للتشطيب والتغيير والتصحيح، ما دام ناقضاً لا يمكن اعتباره حقيقة، أو وثيقة تقول كل شيء.

ما يجري على الماضي، يجري على الحاضر، والتاريخ، بهذا المعنى، هو حقل تدافع وتنازع، يُكتب بأكثر من يدٍ، وأكثر من لسان، وبأكثر من تشطيب وتغيير وتعديل، أي بتصرف، وهو طِرْس يُكتب بقلم رصاص، لا بالحبر، أو ينبغي أن يُكتب بقلم رصاص في يد، وبممحاة في اليد الأخرى.

احتمال التدليس موجود، لا يمكن استبعاده، وكذلك احتمال الإضافة والتزيد. ثمة تواريخ وليس تاريخاً واحداً، ما يعني أن قراءة التاريخ، هي، دائماً، قراءة من زاوية لا من كل الزوايا، الذات، لا الموضوع ما يتحكم في أغلب هذه القراءات، وكذلك الكتابات، لذلك، فقراءة التاريخ، هي قراءة بالحذر، والشك، والرغبة في الاكتشاف، وهي قراءة تكون بالمقارنة بين نفس الموضوع، في أكثر من مصدر ومرجع ووثيقة أو أثر.

الحياد في التاريخ، نسبي، وحتى من قرأوا التاريخ بإعادة سؤاله، وبوضعه موضع شك ونقد وريبة، ووجهوا بيقين من اعتبروا التاريخ ديناً آخر، لا يدخله الباطل من أي جهة، واعتبروا ما بُني على التمحيص والفحص والمراجعة والتدقيق، هو مسّ بهذا التاريخ، خصوصاً التاريخ القديم الذي التبس فيه الديني بالدنيوي، أو صار الواحد منهما هو الآخر.

إننا، إذن، حين نقرأ كتب التاريخ المتاحة التي هي مصادر ومراجع عند المؤرخين، علينا أن نفتح هذا التاريخ على ما ساوقه من كتابات وأحداث ووقائع، في كل مجالات وحقول العلوم والمعارف والفنون والآداب، وحتى السيَر، فهذه من الوثائق التي علينا النظر فيها، لمساءلة يقين التاريخ، وما قد يحيط به من شك وخلط والتباس.

فالتاريخ، له أكثر من لسان، وأكثر من يد، وأكثر من عين، وعلينا أن نقرأه، لا باعتباره انتهى، بل باعتباره مفتوحاً على البدايات، وعلى المساءلة، والتحقيق. كل قراءة تكون يقيناً، هي هذا التاريخ نفسه، يتكلم بغير لسانه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

صحيفة “المساء” المغربية – 26 شباط 2023

عرض مقالات: