لم تكن الفلسفة عالقة في السماء، ولا هي جاءت من السماء، بل هي بنت الأرض، والأرض هي رحم التفلسف، وما ظهر ونشأ من أفكار ومبادئ ومذاهب ومفاهيم وتيارات

يكفي أن تكون الفلسفة هي التأمل، والملاحظة والفحص والاختبار والنقد والتساؤل، لتكون فيها روائح التربة والعشب، وألوان الطبيعة بكل أطيافها، حتى والفلسفة تبحث فيما وراء الطبيعة.

من ظنوا أن الفلسفة بعيدة عنهم، لم يبلغوها، أو لن يبلغوها، لم يقرؤوها بوعي الأرض، والتربة والعشب، ولعل في تعقبنا لنيتشه، في تقصيه لفلاسفة ما قبل سقراط، من كان الجميع نسيهم، أو أن سقراط أخفاهم، بما أثاره من أفكار وقضايا، وما أثارته محاكمته وموته، من سجالات ما تزال مستمرة إلى اليوم، وبما حاقَ بشخصية سقراط نفسه من غموض والتباس، كان أحد أسباب اختفاء هؤلاء الفلاسفة وراء غلالة من ضباب شفيف، نيتشه أزاحها بضربات مطرقته، ليكشف عن الفلسفة في أوَّل عهدها بالتأمل والتساؤل، وبوضع اليد على ما سيدخل فيه العقل من تشابكات وتعقيدات، ستظهر بشكل جلي مع أرسطو، ومع من تركهم سقراط خلفه من تلاميذ، رغم أن سقراط، تكلم ولم يكتب، لموقفه المعروف من الكتابة. فأفلاطون، كان الناطق باسم سقراط، أو ناقل سقراط في محاوراته التي هي جزء من الفكر الفلسفي، وهي أساس لكثير من المفاهيم والتصورات التي لا يمكن فهما، والدخول إليها، دون المرور عبر سقراط، ودون تعقب نيتشه، في إزاحته الغطاء عن الفلاسفة الأيونيين، أو فلاسفة ما قبل سقراط، في التعبير الشائع، وهو ما سيقوم به هايدغر نفسه، لاحقاً، كون هايدغر، بدوره، كان دارساً لنيتشه، ومتعقبا حاذقا ولبيبا لفكره.

الفلسفة، إذن، هي بنت الأرض، ومن رأوها في السماء، فقط، لأنهم لم يمشوا في الأرض حفاة، كما كان سقراط يمشي حافياً، ليبقى لاصقا بالأرض، يتحسس وجودها في جسمه، وفي فكره، رغم أنه، في لحظة ما، أدرك أن هناك أشياء تجري خارج الأرض، لكنه لم يترك الأرض، وأبقى على الفلسفة في موطنها الأصلي، وفي مسقط رأسها لم ينتزعها منه، بدليل محاورته للشبان في الشوارع والساحات العامة.

مشكلة الذين يتهمون الفلسفة بالعقوق، أو يجعلون منها فكرا معقدا، أو درسا يصعب هضمه، لم يدركوا أن الفلسفة موجودة في كل شيء، في الأدب، في العلم، التاريخ، وفي الفن، وفي السينما، وفي الإعلام، وفي اللباس، وفي المعمار، وفي الصورة، لأن الفلسفة ليست بيتا بدون نوافذ، بل هي بيت مفتوح على كل الجهات، تتساءل عن كل شيء، وتتدخل في كل شيء، وتحشر أنفها في كل شيء، بفضول مثير وعلني، لأن طبيعتها هكذا، أو هكذا ولدت ونشأت وستبقى.

يكفي أن نقرأ هوميروس، لنجده متفلسفا، في سؤاله المبطن حول علاقة السماء أو «الأولمب» بالأرض، وما نشأ من توظيف للأرض في صراع آلهة الاولمب، في حرب طروادة، وهذا، في ذاته، واحد من المشكلات التي تدخل ضمن السؤال الفلسفي، حتى وهومير ليس سوى شاعر، أو منشد، فهو رأى ما لم يره من كانوا في زمنه يبصرون.

الفلسفة هي الإبصار، هي رؤية واسعة لكل شيء، هي العيون مفتوحة على الشمس، مشكلتها، أو مشكلتنا معها، أننا لا نقرؤها في تاريخها، ولا نقرؤها في مفاهيمها وتصوراتها، وما تقترحه من أسئلة وأفكار، نقرؤها مقابسات وتفاريق، كما حدث لنا مع الصوفية، هؤلاء الذين ابتدعوا لغة ومفاهيم، عزلوا بها أنفسهم عن العوام، وحتى عن الفقهاء ومن لهم صلة بالدين، ممن سموا بالعلماء. صعب على من أخذ بعضها دون الآخر أن يفهموهم، أو، في نهاية الأمر، اتهموهم وأدانوهم، كما أدين الحلاج، صلب، قطعت أطرافه وأحرق، أمام الملأ.

الفلسفة، لم تكن شيئا غير الأرض وهي تتكلم، وتسأل، وتفتح الأعين على المختفي، والغامض، والمبهم، وأباحت لنفسها حرية النظر دون قيود، وكانت جديدة على من اكتفوا بالجواب، لذلك حوكمت بالسَّماء، بدل أن تحاكم بالارض نفسها التي خرجت منها.

حين منعت الفلسفة في المغرب، واستبدلت بالدراسات الإسلامية، أي حين استبدلت الأرض بالسماء، حدث ما حدث من تطرف، ومن فهم مغلق للسماء نفسها، ومن خروج عن السؤال بفرض الجواب، ليتحول العقل إلى أداة، ولم يبق هو الإنسان وهو يفكر ويسأل ويتأمل، وهذا ما نراه في واقعنا العربي الذي امتهنت فيه السماء أيضا، وعلقت بها أوشاب ليست منها، لتصبح الأرض بدورها، بلا أفق وبلا طريق، والسّؤال فيها مصادر، أو مسيج بأسلاك فكر عقيم، وثقافة لم تقرأ الماضي كما قرأته الفلسفة، وقرأه الفكر والشعر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

«المساء» المغربية – 6 كانون الثاني 2023

عرض مقالات: