كان لنهاية قرن الطبقة العاملة أساس اقتصادي تجلى في التراجع عن التصنيع والأمْوَلة المتسارعين في بلدان المركز الرأسمالي؛ وثمة عامل سوسيولوجي إضافي، وإن يكن مواربا، هو التفكك الاجتماعي الذي نجم عن ثورات ١٩٦٨ الثقافية. على أن هذه كلها لم تؤذن بسرعة بفجر وليد للطبقة الوسطى. لما كانت النيوليبرالية الغربية حساسة ضد أي نوع من أنواع الخطاب الطبقي، آثر المعادون للشيوعية في أوروبا الشرقية أن يسموا أنفسهم «مجتمع مدني» مع أنهم كانوا ينسبون لأنفسهم خصائص الطبقة الوسطى عندما يكونون في السلطة.(10) ومع أن فكرة الطبقة الوسطى ولدت في الغرب، كما يلاحظ هوبزباوم، إلا أنها بُعثت حيّة في الشرق والجنوب(11) خلال ثمانينيات القرن الماضي، فقد «اكتشِفتْ» الطبقة الوسطى في شرق آسيا المحافظة بما هي نتاج النموّ الاقتصادي المتسارع في «النمور الأربعة الصغار»: تايوان وكوريا الجنوبية وسنغافورة وهونغ كونغ.(12). كانت الطبقات الوسطى تبرز بما هي قوة سياسية لا يستهان بها في المنطقة، تلعب أدوارا مركزية في الحركات الشعبية العريضة التي قضت على الدكتاتوريات العسكرية في سيئول وتايپاي.

في الصين، مضى المصطلح في مسيرة عسيرة قبل أن يلقى القبول. في الثمانينيات، كان الاهتمام الأكاديمي بالطبقة الوسطى مستوحًى إلى حد ما من الماركسية الأميركية الجديدة التي مثّلها أريك أولين رايت وزملاؤه. على أن العقيدة الرسمية ما لبثت أن نظمت هجومها المضاد بعد أحداث ساحة تيانانمين، العام ١٩٨٩. وكما يقول عالم اجتماع مشهور باتّباعه الخط الرسمي: لم يكن بإمكان الصين الاشتراكية أن تسمح لـ«الطبقة الوسطى» بالظهور، لأن ذلك سـ«يقلب نظامنا الاشتراكي رأسا على عقب». فبينما نظرية الطبقة الوسطى في الغرب «قد وُجدت للتغطية على قضية الصراع الطبقي»، إلا أنها في الدول الاشتراكية «تقسم صفوف البروليتاريا وتفصل رجال الأعمال والمثقفين عن البروليتاريا وتشكل قوة تخريبية». على أنه، بعد فترة من الصمت، أعيد فتح النقاش عن الطبقة الوسطى. وفي العام ٢٠٠١ كانت المحاجّة التي تقول «إن الطبقة الوسطى هي، في جميع البلدان، أهم قوة للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي» قد حققت انتصارا حاسما. فهذه الطبقة حاجز بين الطبقات العليا والفقيرة، وهي حاملة الأيديولوجيات المعتدلة والمحافظة، وهي القاعدة لسوق استهلاكي عريض ومستقر.(13) وقد رأى العديد من الأكاديميين الصينيين في القرن الواحد والعشرين أن الطبقة الوسطى هي أيضا مثال لنزعة المساواة، ومفتاح لبنية اجتماعية «لها شكل الزيتونة».(14) أما التغير المفهومي الفييتنامي لمرحلة بعد الشيوعية فقد اختزله نائب رئيس الوزراء هوانغ ترونغ هاي، بقوله «إن أبناء الطبقة الوسطى الشباب سوف يشكلون القوة الدافعة في آسيا»، مشيرا إلى «وصول مليار مستهلك إضافي من أبناء الطبقة الوسطى» [إلى الأسواق]. قبل ثلاثين عاما، كان سلفه سوف يشير إلى الطبقة العاملة على أنها هي تلك القوة الدافعة(15).

كان للحلم بطبقة وسطى جديدة في الجنوب الكوني إطار آسيوي أولاً بأول. صاغته وروّجت له شخصيات في مدار البنك الدولي، مدعومة بهيئات استشارية لرجال أعمال ومديري مصارف استثمارية. وظهرت الطبقة الوسطى مطلع الألفية، خلال «العصر الذهبي»، عصر الرأسمالية المعولمة وتعهيد الأعمال لمصادر خارجية. وكما أشرت أعلاه، أعيدَ اكتشاف الطبقة الوسطى في الشرق خلال ثمانينيات القرن الماضي على أيدي علماء اجتماع مشغولين بتغير البنى المهنية والتشكيلات الطبقية ومهتمين بآثارها الاجتماعية والسياسية. بالمقارنة، كانت نزعة الانتصار الجديدة تكاد تنحصر بالاستهلاك. كانت «الطبقة الوسطى» تعني كل من يملك بعض المال لينفقه. ثم صار المعنى ينطبق بعد قليل على الذين تجاوزوا خط الفقر، حسب تعريف خطوط الفقر الوطنية الرسمية.(16) الفكرة التي تقول إن الطبقة الوسطى تبدأ فيما يتجاوز العشرين بالمائة الأفقر من السكان – ويكون هؤلاء من فئة مدقعي الفقر في البلدان الفقيرة – تلقّت الدعم عام ٢٠٠٠ في دراسة نافذة لوليام إيسترلي، وهو من أنصار فريدريش فون هايك المتعصبين يعمل في البنك الدولي. في دراسة «توافق الطبقة الوسطى والتنمية الاقتصادية»، حاجج إيسترلي أن اللامساواة المتمثلة في حصة ثلاثة أخماس السكان الأدنى دخلاً – التي سماها «الطبقة الوسطى»، من دون أن يقدم حججا لدعم ذلك – تشكل عائقا أمام التنمية. (17) لذا فإن توسع الطبقة الوسطي بات موازيا لتقلص الفقر – وهو رابط مفهومي يربط مشاغل اقتصاديي التنمية عن خفض عدد الفقراء مع مصالح مستشاري رجال الأعمال الباحثين عن أسواق جديدة.

عرض مقالات: