رغم كل ما يقع من خلط أو مزج بين «المجتمع السياسي»، كما هجس به أرسطو، و«المجتمع المدني» الذي اعتبره القديس أغسطين هو «المدينة الأرضية» تمييزاً له عن «المدينة السماوية»، أي ما يتعلق بشؤون الناس على الأرض، وتنظيم حياتهم في المدينة، بكل ما فيها قوانين وتشريعات وتنظيمات، فإن الفصل بين المجتمعين، ليس هيّناً، بل يكاد يبدو متعذراً، ومن الصعب وضع حدود بين المفهومين، بل وبين المجتمع السياسي، والمجتمع المدني. وسيتدخل المجتمع الاقتصادي، بدوره، في مضاعفة هذا الخلط والتداخل، خصوصاً مع آدم سميت في القرن الثامن عشر، وسيعتبر أن المجتمع المدني هو «المجال الذي تجري فيه تبادلات السوق»، والسوق، كما يرى، هي ما يعمل كـ «آلية ضبط طبيعية للتبادلات في المجتمع».

ما يهمنا، هنا، هو المجتمع المدني، بكل تداخلاته، وبما هو نسيج من العلائق، يتداخل فيها المادي بالرمزي، ويكون الإنسان في هذا المجتمع هو أساس الاجتماع، بل هو أساس هذا النسيج، أو الخيط الناظم له، لا باعتباره أداة أو آلة، أو مجرد سوق أو مستهلك، تعمل الطبقات المهيمنة على الثروة، على توظيفه، فقط، لمراكمة رساميلها، وتوسيع أسواقها، وتحويل المدينة إلى معمل كبير، الآلة فيها، هي نفسها الإنسان، لا فرق، ما داما، معاً، ينتجان الثروة، ويساهمان في مراكمتها، وفي خلق الأسواق، و تحويل المدينة إلى معمل أو مصنع كبير، لا غير.

فالمجتمع المدني، هو المجتمع المنظَّم سياسياً واقتصادياً وثقافياً. جميع الذين تحدثوا عن المجتمع المدني، كما نرى، بمن فيهم هيجل الذي سينتقده ماركس لاحِقاً، أغفلوا الشرط الثقافي لهذا النسيج، وهو أحد الشروط الجوهرية في تنظيم المدينة، وفي إرساء دعائمها الاجتماعية، وابتداع القوانين، والمؤسسات التي تحمي هذه القوانين، بفرضها على الجميع، لا على فئة دون غيرها، وتعميمها، وجعلها أداة لتنظيم السياسة نفسها، وتنظيم الأسواق، واستخلاص الأموال ممن عليهم واجب دفعها من الأثرياء، ومن يستعملون المدينة، أو بعض مجالاتها في استثماراتهم وما يربحونه من أموال.

فالثقافة، لا تعني، فقط، المفهوم الحصري الذي ساد عند الكثيرين، بمن فيهم الدولة نفسها، بل هي كل ما يتعلق بوجود الإنسان في المدينة، وما ينتجه فيها، ليس من سلع وبضائع، بل من أفكار، ومن إنتاجات رمزية، أو رأسمال رمزي، كما سماه بيير بورديو، هذا الرأسمال الذي لا يُستفذ، وهو ما نتوارثه باعتباره معرفة وعلماً وثقافةً وفناً. فالمجتمع المدني، هو مجتمع المتاحف، والعمارة، والقراءة، والصناعات الثقافية بكل أشكالها، ومجتمع الرياضة، والمسرح والسينما، والتشكيل، والموسيقى، والفكر، والأدب، أي مجتمع الإنسان الذي لا يعمل بعضلاته أو بجسمه وسواعده، فرأسه كذلك يعمل، ويكون هو ما يربطه، بعد الشغل والعمل، بهذا الرأسمال الرمزي، إما مشاركة واستهلاكاً، أو إنتاجاً وخلقاً للأفكار والمشاريع والبرامج.

لا تنشأ المجتمعات من معامل ومصانع وشركات وأسواق للبيع والشراء، المجتمعات تنشأ بمن فيها من مواطنين يبتكرون ويبدعون، وما فيها مدارس وجامعات ومتاحف ومكتبات وقاعات للعروض الثقافية والفنية، ومن مؤسسات للاجتماع والحوار والنقاش وتداول الأفكار والق

ضايا والمشكلات الكبرى، ومن مطابع، وناشرين، ومن معاهد للفنون الجميلة، وتعميم الكتب والمعارف والفنون، وترويجها، وغيرها مما يمكن اعتباره الشرط الثقافيّ للمجتمع المدني، الذي لا تبقى السياسة والاقتصاد، هما ما نحدد به هذا المجتمع، ونتجاهل الإنسان، الذي هو هذا المجتمع، وليس آلة المجتمع، أو من نستنزف ثرواته لإثراء الأثرياء، وتوسيع سلطتهم على باقي الطبقات، بما يصلون إليه من سلطة، يستعملونها في الدفاع عن مصالحهم، وليس مصالح الشعب أو المجتمع.

أليس هذا ما نراه يجري اليوم عندنا، بهيمنة أصحاب المال على كل شيء، وتحكمهم في الثروة، وفي الأسواق، وهم من في السلطة، يحمون مصالحهم، ويبررون الفقر والبؤس بما يجري بعيداً عنا، رغم ما كانوا يحملونه من شعارات، توهَّم من صوَّت عليهم، أنها هي خلاصهم، أو الجنة التي لم يروها بعد على الأرض!؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

«المساء» المغربية – 15 تشرين الثاني 2022

عرض مقالات: