في نهاية الأسبوع الثاني، هدأ التوتر. مطلع الأسبوع التالي، كان يوم نضال حاشد سمي «الاثنين العظيم» دعت إليه أحزاب اليسار ونقابات التعليم والاتحاد العمالي العام ونقابة سائقي الشاحنات واتحاد المتقاعدين. طالب هؤلاء المجلسين بعدم إقرار ما سماه بينييرا «الروزنامة الاجتماعية الجديدة» لأنها لا تلبي المطالب الشعبية، وهددوا باللجوء إلى الإضراب العام. لكن ذلك اليوم غرق في أعمال العنف. هرب آلاف طلّاب الثانوي من المدارس للالتحاق بالتظاهرات. دخل شرطيون بسلاحهم إلى حرم الجامعات وأطلقوا النار داخل الثانويات. سقط ثلاثة متظاهرين جدد وأدت مشاهد إطلاق النار في المدارس الثانوية إلى إعادة إضرام النار في الانتفاضة الاجتماعية التي دخلت عندئذ أحياء الأغنياء. وقعت صدامات داخل أكبر «مول» استهلاكي في أميركا اللاتينية. وخلال الليل، تم تكسير مقرات الأحزاب اليمينية. وفي ٧ تشرين الثاني، دعا بينييرا مجلس الأمن الوطني إلى الانعقاد (لم يُدع من قبل إلا لمناقشة الخلاف الحدودي مع بيرو)، كما أرسل سلسلة من القوانين لتشديد العقوبات على من يخرب الممتلكات العامة والخاصة. وفي اليوم نفسه، صدر عن اتحاد البلديات بيان وقع عليه ٣٣٠ من أصل ٣٤٥ بلدية، تنتمي إلى كل الأطياف السياسية، دعا إلى تنظيم استفتاء خلال مهلة شهر لإقرار دستور جديد. في الثامن من الشهر نفسه، خرجت تظاهرة كبيرة في العاصمة خلفت عشرات الجرحى وفقد خلالها أحد الطلاب بصره. ولم تتردد الشرطة في قمع المتظاهرين الذين تجمعوا على أبواب المستشفيات.

بعد تحرك البلديات، اضطر بينييرا إلى تحديد موقفه من مسألة الدستور، فأعلن وزير الداخلية في ١٠ تشرين الثاني أنه سيكلف مجلسي النواب والشيوخ صياغة مشروع دستور جديد يليه استفتاء للتصويت عليه. وفي ١٢ من الشهر نفسه، رفض ١٤ حزبا معارضا اقتراح الوزير وطالبوا بمجلس تأسيسي منتخب، فيما أضرمت النيران في مبان رسمية وكنائس تاريخية وإحدى الثكنات العسكرية. أطل بينييرا مجددا في الليل، وأعلن موافقته على دستور جديد «شرط أن تجرى العملية ضمن الشرعية الديموقراطية». وبعد يومين، بدأت مفاوضات سياسية بين الأحزاب الموالية والمعارضة، وأسفرت عن توقيع «اتفاق السلم الاجتماعي والدستور الجديد» في القصر الجمهوري ينص على تنظيم استفتاء لمعرفة رأي المواطنين في دستور جديد، وفي حال الموافقة، ما هو خيارهم: أن يتولى صياغته مجلس تأسيسي منتخب بالكامل؟ أم مجلس ينتخب نصف أعضائه على أن يتشكل النصف الثاني من النواب؟ وتضمن اتفاق الأحزاب أيضا أن ينجز المجلس التأسيسي أعماله خلال سنة وأن تقرّ مواده بأكثرية الثلثين قبل إعادة عرض المسوّدة على استفتاء جديد لتصديقها.

أسفرت «انتفاضة ١٨ تشرين» عن ٣٢ قتيلاً وكلفت خسائر بلغت عدة مليارات من الدولارات. لكنها، وخلال أقل من أربعة أسابيع وبغياب قيادات معترف بها وبمشاركة شرائح مجتمعية عديدة، من الطبقات المعدمة وصولاً إلى الطبقة الوسطى العليا، نجحت في أن تطوي صفحة إرث بينوشيه الدستوري.

استفتاء شعبي لدستور جديد

من أجل التحضير للاستفتاء، تأسست لجنة مؤلفة بالتساوي من أحزاب المعارضة والموالاة، وهنا تقرر مبدأ المساواة بين الرجال والنساء في الجمعية التأسيسية وكذلك مسألة تمثيل الشعوب الأصلية وإعطائهم ١٧ مقعدا من أصل ١٥٥، منها سبعة مقاعد لشعب «المابوش» الأكثر عددا بينها. مع بداية عام ٢٠٢٠، بردت التظاهرات ولم تستعد بعضا من سخونتها إلا بعد مقتل أحد مشجعي فريق «كولو كولو» برصاص الشرطة إثر مباراة كرة قدم مع نادي «بليستينو» (فلسطين). وصارت الاشتباكات مع الشرطة تتجدد بعد المباريات منذرة بأن النيران ما زالت مشتعلة تحت الرماد. بدءا من آذار، تناقص عدد التظاهرات بسبب الجائحة إلى أن توقفت. وللسبب نفسه، تأجل موعد الاستفتاء مرات عدة حتى جاء «١٨ تشرين» الجديد. لمناسبة مرور عام على الانتفاضة، سارت تظاهرة في العاصمة ضمت ٢٥ ألف مشارك، وكالعادة، انتهت بمواجهات مع الشرطة واعتقال المئات. ولكن على عكس العادة، نُظّم الاستفتاء في الأسبوع التالي، وشارك فيه ٥١٪ من الناخبين الذين طرح عليهم سؤالان: الأول حول الموافقة على صياغة دستور جديد، فنال ٧٨،٣٪ من الأصوات المؤيدة، والثاني حول كيفية تشكيل المجلس التأسيسي، فاختار ٧٩٪ من المقترعين انتخابه بكامل أعضائه.

قبل الخوض في نتائج انتخابات المجلس التأسيسي، فلنتوقف عند الأهمية التي أخذتها مسألة الدستور وعلى أسبابها. عام ١٩٨٠، عرض النظام العسكري دستورا جديدا على الاستفتاء وأقره بـ٦٧٪ من الأصوات، مع أن هناك شكوكا حول ظروف هذا الاستحقاق وشرعيته. منذ إقراره — والأصح منذ فرضه قسرا — ارتفعت أصوات تطالب بدستور ديموقراطي. بعد خروج بينوشيه من الرئاسة، وخلال الانتخابات المتتالية التي أوصلت رؤساء ينتمون إلى المعارضة، أخذ الدستور طابع الأمر الواقع المقبول أو المسلم به. اعترفت به تدريجيا كل أحزاب المعارضة، باستثناء بعض أحزاب اليسار، ومنها الحزب الشيوعي، التي استمرت برفضه من حيث المبدأ مع أنها كانت تتكيف معه عمليا. أدخلت على الدستور بداية تعديلات كان لا بد منها بعد خروج بينوشيه من الرئاسة، كتخفيض مدة الولاية، ثم عُدّل عدد من المواد اللاديموقراطية خصوصا خلال ولاية الرئيس الاشتراكي لاغوس عام ٢٠٠٦. في الحراك الطلابي عام ٢٠١١، والذي دام أشهرا عدة، برزت المطالبة بدمقرطة التعليم (رفضا لتحويل العلم إلى سلعة). واعتبر الحراك يومها أول نضال مجتمعي يعيد النظر بوراثة بينوشيه، ويثير مسألة إعاقة الدستور لسياسات عامة بنيوية وعميقة. ففي عام ٢٠١٣، أطلقت حملة Marca AC  (مجلس تأسيسي ماركة مسجلة) تطالب بمجلس تأسيسي لكتابة دستور جديد كمطلب أوحد. وكان من بين المبادرين مع آخرين بهذه الحملة التي استمرت إلى ما بعد انتخاب المجلس التأسيسي عام ٢٠٢١، الرئيس المنتخب مؤخرا غبريال بوريتش بصفته رئيسا لـ«اتحاد طلبة تشيلي» آنذاك.

دستور النيوليبرالية

عند وصول الرئيسة ميشيل باشليه للمرة الثانية إلى كرسي الرئاسة، أطلقت ورشة «تأسيسية» نتجت منها آلية قدّمتها إلى البلد في آخر أيام ولايتها، إلا أن بينييرا عطلها فور تسلمه الرئاسة مفضلاً تكليف مجلسي النواب والشيوخ بتعديل الدستور وتحسينه. ما لم يلتفت إليه بينييرا أن الموضوع لا يقتصر على التحسين لأن دستور ١٩٨٠ جرى تطعيمه بما سمي إيديولوجيا الـ«شيكاغو بويز»، وهم اقتصاديون تشيليون تتلمذوا منذ أواسط الخمسينيات على يد ميلتون فريدمان (وفريق من أساتذة الاقتصاد في جامعة شيكاغو الأميركية) وحولوا تشيلي إلى أول حقل اختبار للأفكار النيوليبرالية. أمسك هؤلاء الخبراء بالمراكز الاقتصادية العليا وأجروا «صدمات اقتصادية» مستفيدين من منع النقابات، من أجل تأسيس ما سمّي «اقتصاد السوق الحر». خفضوا الإنفاق العام، وقلصوا العرض النقدي، وخصخصوا المؤسسات العامة بما فيها القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية. أدت هذه السياسات إلى نمو اقتصادي ملحوظ (وصفه فريدمان بـ«المعجزة الاقتصادية») على حساب الوضع الاجتماعي إذ تفاقمت البطالة وزادت معدلات الفقر. ونصل هنا إلى بيت القصيد، إذ سرب هؤلاء الخبراء في كل مواد الدستور فكرة تقول إن كل ما تستطيع أن تقوم به المبادرة الخاصة لا ينبغي أن تقوم به الدولة. ومع الوقت، ترسّخ لدى المواطنين وعي بأن دستور ١٩٨٠ يعيق قيام سياسات عامة مجدية وجريئة في مجالات مثل التعليم والصحة والحماية الاجتماعية، وأنه لا بد من دستور جديد لتحسين الأوضاع الاجتماعية ولوضع حد للإقصاء الاقتصادي والاجتماعي وللحصول على حقوق جديدة، بيئية أو نسوية، ولتغيير قوانين اللعبة بالجملة.

أجريت انتخابات المجلس التأسيسي يومي ١٥ و١٦ أيار من عام ٢٠٢٠، وارتفعت المشاركة إلى ٤١،٥٪ من الناخبين. وأول ما يلفت الانتباه في بلد مثل تشيلي أن المرشحين المستقلين من خارج الأحزاب شكلوا أكثر من ٦٠٪ من مجمل المرشحين. وقد دخل المجلسَ التأسيسي، نتيجة قانون المناصفة بين الرجال والنساء، ٧٨ رجلاً و٧٧ امرأة. ومن الطريف تسجيل أن القانون المذكور استفاد منه الرجال، إذ أُجبرت ١١ امرأة فائزة على ترك مقاعدهن لرجال فيما ترك خمسة رجال فائزين مقاعدهم لنساء فقط (اللواتي شغلن ٢٥٪ من المقاعد في مجلس النواب). وضمن قانون المجلس التأسيسي لمندوبي الشعوب الأصلية ١١٪ من مجمل المقاعد الـ١٥٥ (فيما هم يمثلون ٢٪ من مجلس النواب). وقد اختيرت محامية من مندوبي الشعوب الأصلية لتكون أول رئيسة للمجلس التأسيسي. وفي تحليل النتائج، يمكن القول إن العملية الانتخابية رجّحت كفة من يريد تغييرا عميقا في الدستور: لم ينجح ائتلاف اليمين في الحصول على ثلث المقاعد مع أنه ترشح على لائحة موحدة مع اليمين المتطرف (٣٧ مقعدا)، فيما حصد ائتلاف اليسار الراديكالي ٢٨ مقعدا واليسار المعتدل ٢٥ مقعدا. وكانت الحصة الكبرى للمرشحين المستقلين الموزعين على مجموعات عديدة (٤٩ مقعدا) يمثلون في أكثريتهم الحركات الاجتماعية والمناطقية. من المبكر الحسم في مضمون الدستور الجديد الذي كتبه الناس هذه المرة والذي سيجهز في تموز، ولكن لن نخاطر بالكثير إذا توقعنا أنه — على عكس دستور بينوشيه — سيعترف بحقوق الشعوب الأصيلة ويؤسس لدولة الرعاية الاجتماعية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*صحفي لبناني

مجلة «بدايات» – العدد 34 – 2022

عرض مقالات: