في العقد الثاني من القرن العشرين ولد المفكر الفيلسوف، ابن جبل عامل، الفلاح الفقير، المفكر، الباحث الماركسي في التراث العربي الاسلامي، الشيوعي الملتزم، حسين مروة. وفي 17 شباط 1987 اغتالت قوى ظلامية هذا المفكر الكبير بمسدس كاتم للصوت.

تتضح القيمة الاساسية في مسيرة حسين مروة وتأثيره الحاسم في التكوين الثقافي لشخصيته كمفكر ماركسي تتضح من حقيقة انه جاء الى الشيوعية والحزب الشيوعي، في خضم تجربة كفاحية في واحدة من اهم الانتفاضات الوطنية التحررية في تاريخنا الحديث. كان ذلك في العراق، اثناء “وثبة كانون” المجيدة التي انفجرت احداثها بين أول كانون الاول 1947 وبداية كانون الثاني 1948، وذلك ضد “معاهدة بورتسموث” التي عقدت مع الانكليز. كان حسين مروة في قلب تلك المعارك. فقد كان اختياره، منذ وثبة كانون المجيدة تلك حاسما، قاطعا ونهائيا وقد كتب: “ ... تلك كانت نقطة التحول عندي نحو الشيوعية “.

ويبدو أن نوري السعيد، رجل الانكليز في العراق آنذاك، رأى جيدا (نقطة التحول) هذه في كتابات حسين مروة، فأصدر قرارا بابعاده من العراق، فور العودة الدراماتيكية لنوري السعيد الى الحكم (عام 1949) مدججا بدبابات الانكليز.

عاد حسين مروة الى لبنان، وهناك توغل اكثر في النظرية الماركسية، وارتبط نهائيا بالحزب الشيوعي اللبناني. وشارك، عمليا وكتابيا، في جميع المعارك الوطنية التحررية التي خاضها الشعب اللبناني.

طيلة حياته اصدر حسين مروة الكثير من المقالات والدراسات والبحوث والكتب، في التراث والفكر والفلسفة والنقد الادبي. غير أن اهم كتبه هو كتابه المشهور: “النزعات المادية في الفلسفة العربية – الاسلامية”. صدرت الطبعة الاولى من هذا الكتاب في جزءين عام 1978، ويقع في حوالي 2000 صفحة من القطع الكبير. يعد هذا الكتاب الانجاز الفكري الاهم لحسين مروة، فهو يشكل عملا تأسيسيا في مجال البحوث التراثية العربية المعاصرة، يقدم معرفة علمية جديدة بالتراث الفكري الفلسفي العربي، اذ ينظر الى مكان هذا التراث من اللحظة التاريخية في خط تطور المجتمع العربي – الاسلامي خلال العصور الوسطى خاصة. وقد اثار هذا الكتاب، ولا يزال يثير، حوارا خصبا حول التراث الفكري الفلسفي العربي وضرورة دراسته في ضوء جديد، علمي، معاصر. كما اثار ويثير الجدل حول مسألة اعتماد النظر العلمي، الماركسي، في دراسة هذا التراث العربي الاسلامي.

ولا يتسع المجال لمزيد من التفاصيل حول “النزعات المادية في الفلسفة العربية – الاسلامية” الا انه بالامكان بلورة اهم الاستنتاجات التي توصل اليها حسين مروة في عمله الهام هذا:

  1. ان التراث الاسلامي هو تراث زاخر بالقيم والنزعات المادية والتقدمية، وان الفلسفة الاسلامية تحمل في طياتها في التجليات المادية والاتجاهات الايديولوجية المعارضة للسلطة المستبدة وايديولوجيتها الرسمية مما يجعل من هذه الفلسفة ثورية تصلح كأداة معرفية لتغيير العالم.
  2. ان الفلسفة العربية ليست هي الفلسفة اليونانية منقولة الى العربية، ولا هي نتاج عقول ومواهب فردية منعزلة، بل هي نتاج المجتمع العربي – الاسلامي في تفاعله مع الثقافات الخارجية، وبينها، اضافة الى اليونان، الهندية والفارسية.
  3. ان تدمير واخفاء وتشويه الجزء الاكبر من تراث الحركات الفكرية والسياسية المضادة لعقيدة الدولة الرسمية وسياساتها كان نتيجة خوف السلطان السياسي من سلطان الفكر، وقد استهدف هذا التدمير سوق الجماهير لآيديولوجية القبول السلبي بارادة السلطة.
  4. ان الفلسفة العربية ليست من صنع العبقرية الفردية لفلاسفة افراد، اذ ان الفلاسفة لا يخرجون من الارض كما تخرج النباتات الفطرية وانما هم ثمار عصرهم وشعبهم، وهو العصارة الارفع شأنا، والاثمن، والمعبرة عن نفسها بالافكار الفلسفية.
  5. ان التراث ليس قضية الماضي لذاته، أي إنه ليس الماضي الميت وليس اسقاطا للماضي على الحاضر يجعل من الماضي زمنا مطلقا يسود كل الازمنة كما يريد السلفيون. إذ يصبح الجمود هو السائد، والرجوع الى ماضٍ ذهبي مزعوم هو المرتجى، وهو مرتجى مستحيل على كل حال.
  6. أن التراث هو واحد بنصوصه الثابتة التي لا تتكرر ولا تتعدد، لكن معرفته، أي كيفية تناوله وتفسيره وفهمه، هي التي تتعدد بتعدد قراءاته. وهذا التعدد ناتج بالضرورة عن تعدد المواقف الايديولوجية، واختلاف البنى الفكرية لقرائه.
  7. أكد حسين مروة، بالممارسة المعرفية، امكانية اعتماد المنهج الماركسي اداة لدراسة الثراث، وحاول أن يظهر، بالملموس، تميّز هذه الاداة بما يكفي لجعلها بديلة عن المناهج المثالية السائدة، مستندا الى اعتقاده بأنها وحدها القادرة على النظرة الى التراث وتقويمه على اساس الرؤية العلمية المعاصرة التي تجعل من الماضي التراثي رافدا لحاضر مستقبلي بدل ان يكون التراث في خدمة حاضر ماضوي منا تريد له البرجوازية وسلاطين النفط.

والخلاصة، ان ما انجزه حسين مروة على الصعيد النظري قام على منهج تاريخي جدلي مادي ينطلق من أن الحدث الاجتماعي البشري بمكن فهمه وتقصي آفاقه واحتمالاته إذا وضع في سياقه الرئيسي من البنية الاجتماعية في بعدها التطور التناقضي. فقد عمل مروة على استنطاق موضوع بحثه التاريخي في ضوء منهج معاصر، هو الماركسي. ولكنه إذ فعل ذلك، فإنه ظل يرى في المنهج الماركسي وريثا شرعيا للحظات المنهجية الجدلية التاريخية والمادية التي ظهرت قبله ارهاصيا، أي أنه نظر الى الحدث التاريخي في نموه التاريخي والمنهجي.

عرض مقالات: