لم تأت الماركسية نتيجة  نشاط عقلي تأملي محض كما هو في الفلسفات المثالية  بل جاءت على أساس التطور المعرفي في مجالات الفلسفة والاقتصاد والعلوم الطبيعية الذي شهدته أوروبا في مرحلة عصر التنوير حيث تأسست نتيجة الجهد الذي بذله كارل ماركس (1818-1883) وفردريك انجلز ( 1820-1895) منذ بداية صداقتهما ومشروعهما الفكري المشترك في عام 1844 والانتقال من الفكر المثالي الألماني وانضمامهما الى مجموعة الهيغليين اليساريين الشباب، وأيضا تأثرهما بفلسفة فيورباخ المادية ( انتقداها لاحقا في كتابهما “الأيديولوجية الألمانية”) والنزعات الديمقراطية الثورية في الدفاع عن مصالح الجماهير الشعبية في مرحلة الشباب الى الالتزام بالمنهج الديالكتيكي في دراسة العلوم والتاريخ وصياغة موضوعاتها الأساسية للمادية الديالكتيكية والتاريخية والنضال من اجل تحقيق الاشتراكية.

عاش ماركس وانجلز في مرحلة لم يشهدها التاريخ سابقا من حيث حجم معاناة الجماهير الواسعة من القهر والاستغلال. فالثورة العلمية التي حققت تقدما هائلا في المكننة لم تستخدم لإسعاد البشرية وتقليل العناء بل احتكرتها اقلية من أصحاب رؤوس الأموال لصنع واحتكار السلطة والثروة. من هنا طور ماركس مفهوم الاغتراب ونقله الى مستوى جديد من حيث الأساس النظري والتطبيقي على خلاف من سبقوه حيث كشف ان ما يختبئ خلف ستار من القوى والعلاقات المهيمنة في المجتمع، والتي تبدو محايدة ومستقلة بعضها عن البعض، ان  جميعها نتاج النشاط الإنساني التاريخي السابق والمستقبلي لبناء مجتمع خال من الاضطهاد الطبقي والاجتماعي والاستغلال. وهكذا بالنسبة لماركس لم تكن جذور الاغتراب في العقل ( لدى هيجل 1770-1831) او الدين ( لدي فيورباخ 1804-1872) بل هي في العالم المادي الحقيقي.

نقطة البدء هي في تدقيق نظرية ماركس حول الطبيعة البشرية المحورية في كتاباته في تشريح ونقد النظام الرأسمالي. فالطبيعة البشرية (التي هي مجمل  دوافع الانسان من ميول وغرائز لتلبية احتياجاته المادية) لدى ماركس هي انعكاس لطبيعة العلاقات الإنتاجية السائدة في الظرف التاريخي المحدد والظروف المادية لعملية انتاج الخيرات المادية من سلع و بضائع وهي ذات ديناميكية حيث تتغير وتتطور الطبيعة البشرية بشكل مستمر. وهذا التحليل هو بالضد من بعض التوصيفات التي تعطي للإنسان خصائص ثابته سرمدية كالأنانية او العنف  والتي يجب كبحها عبر قوة الدولة كما جاء مثلا في كتابات توماس هوبز (1588-1679) وهو احد أهم فلاسفة القرن السابع عشر في إنجلترا وعرف بأعماله الفلسفية والسياسية والتي اطلق عليها ماركس محض أوهام. ففي فكر ماركس ان الانسان كائن طبيعي واعٍ منتج  كلي للبيئة المادية وفق معايير ونظم خلقها وكونها يصبح فيها نشاطه موضوع ارادته ووعيه وغاية له أي ان حياته ذاتها هي موضوع لذاته يضع لها خططا مستقبلية في مخيلته وله مصلحة وقدرة على تغييرها. وفي معرض توضيحه الفرق بين هندسة النحل او العنكبوت والنشاط البشري الهندسي يشير الى أنه في كليهما يهدف النشاط الى البقاء. ولكن لدى البشر تتطابق ماهيتهم مع انتاجهم للخيرات المادية. ومن هنا فالشرط الأول في التاريخ البشري هو وجود الانسان الهادف الى تحقيق أهدافه وبوعي قادر على البناء والابداع والتطوير. وعبرها يطورون انفسهم ويصنعون التاريخ، وهو الامر الذي لا تستطيع تحقيقه الحيوانات. ولكن في حالة الاغتراب يصبح وجود الانسان ونشاطه هو فقط كأداة للإنتاج وفي انفصال تام عن طبيعته لتحقيق ذاته الإنسانية  وسبب ذلك هو العيش في المجتمع الطبقي الرأسمالي حيث يفقد الانسان القرار والسيطرة على اعماله وعدم القدرة على امتلاك السلع والخدمات التي هي نتاج عمله بل تصبح تحت سيطرة الطبقة البرجوازية المالكة لوسائل الإنتاج وهدفها الربح من خلال الاستحواذ على فائض القيمة.

وقد تناول ماركس مفهوم الاغتراب في أعماله الأولى خاصة (مخطوطات 1844)، الذي نشر عام 1927، وفي اعماله اللاحقة ولكن باقتضاب. ففي المجتمع الصناعي الرأسمالي يفقد العامل، الذي ينتج السلع والخدمات بنشاطه الجسدي والذهني كموضوع يلبي حاجات المستهلكين، القدرة على تحقيق انسانيته وتجسيد ذاته عبر إشباع حاجاته الإنسانية الخاصة به، وتتحول قوة العمل ذاته وماهيته  الى سلعة تجارية (شيء) ذات قيمة تداولية ويصبح الانسان جزء من عالم الأشياء ويفقد الشعور النفسي بالرضا ويتعمق انفصاله الروحي عن العالم الخارجي ويصبح مغتربا عن عملية الإنتاج والعلاقات الاجتماعية مغلفا بوعي زائف غالبا ما يكون ذا طبيعة روحية من السحر والاساطير والقناعات الدينية، أو يتخذ اشكالا من النشاط الواعي الهادف الى تحقيق الذات وانهاء واقع الذل والمهانة عبر الانخراط بنضال سياسي من اجل تغيير الواقع لتحقيق الذات.

وكما يشير ماركس في (مخطوطات 1844) فان البشر كحيوانات اجتماعية يدخلون في علاقات اجتماعية بغض النطر عن رغباتهم لانهم مجبرون على العمل سوية لغرض العيش والبقاء. ويؤكد ذات الامر في مؤلف “الغرندريسة أسس نقد الاقتصاد السياسي” (كتبت في 1857-1861) عندما أشار الى ان المجتمع لا يتألف من  مجرد افراد بل هو تعبير عن كم العلاقات والتواصل الاجتماعي الذي يعيشه البشر. فمن خلال العمل يتعرف الانسان على العالم الخارجي ويتطور وما يؤثر على عملية الإنتاج له انعكاسات مباشرة على الانسان والمجتمع ككل. ولن يتوقف البشر عن استخدام القدرات العضلية والذهنية والخبرات والخيال لتطويع قوى الطبيعة وحيث يفتح كل نجاح أبوابا جديدة للمزيد من الاكتشافات والتقدم. ولكن عندما تستخدم قوة العمل والتفكير لأغراض الهدم والتدمير او يستخدم العنف والقسر لإجبار الشغيلة على الكدح  في المجتمعات الطبقية ستفقد قوة العمل جوهرها الانساني ويحدث الانفصال بين الانسان والعالم الخارجي  خاصة في المجتمعات التي تسودها العلاقات الإنتاجية الرأسمالية حيث اصبح كل شيء سلعة قابلة للبيع والشراء بسبب التطور العالي للقوى المنتجة على خلاف المجتمعات الطبقية التي سبقتها فلم تعد السلع تنتج  في البيوت او في الورش الصغيرة “المانيفوكتورات” بل في المصانع التي يحكمها الانضباط العالي وانقسام العمل على أساس التخصص في سياق عملية الإنتاج والتي يضطر البروليتاري على الالتزام بها ومواصلة العمل من اجل العيش ويصبح العمل وبقاء المعمل هو خلاصه ويفقد بالتالي طوعية العمل وتتقلص ارادته وخياراته ويزيد من اغترابه. فأجوره هي اقل بكثير من القيمة الحقيقية لقوة عمله والفرق يستحوذ عليه أصحاب العمل كفائض للقيمة، كذلك يفقد العامل قدراته الإبداعية و صبح العمل كشيء خارج ومستقل عنه وغريب عن ذاته وعن الاخرين. فما يربطه بهم هي عمليات البيع والشراء وليس لديه سيطرة عليها، وهي مصدر عذاب له، يفتقد المتعة والشعور بالرضا وبالاكتفاء. والأهم من ذلك هو فقدان القدرة على بناء مستقبل ينسجم مع طموحات واهتمامات الفرد. في هذا العالم كل شيء هو سلعة ذات ثمن وقيمة تبادلية لأنها تشبع رغبات بشرية وتصبح للنقود قوة اقتصادية واجتماعية سحرية ذات طابع “ فتيشي” أي ذات قدرات سحرية خارقة تتحكم بالسلوك البشري على حد تعبير أرنست فيشر (1899-1972)، المفكر الشيوعي النمساوي في كتابه “كيف تقرأ ماركس” والذي يعرفه اليساريون العراقيون من خلال كتابه “ضرورة الفن”.

عرض مقالات: