ولد عبد الرحمن ابن خلدون في تونس عام 1332 ميلادية، وهو فيلسوف ومؤرخ وعالم اجتماع ورجل دولة وسياسة. درس المنطق والفلسفة والفقه والتاريخ. عين والياً (وزيراً) للكتابة. ثم رحل الى مصر في مرحلة ثالثة ودرس في الأزهر، وتولى قضاء المالكية فيه حتى وفاته. وابن خلدون عالم بعيد النظر دقيق الملاحظة ذو نزعة علمية متقدمة في احكامه التاريخية. سبق علماء العرب وفلاسفتهم في التأليف في فلسفة التاريخ. ويعدّه كثير من الاكاديمين المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع. مؤلفه الاهم “مقدمة كتاب العبر” التي اشتهرت باسم “مقدمة ابن خلدون”، ووصفت بأنها خزانة علوم اجتماعية وسياسية واقتصادية وادبية. والحقيقة أنها من أوائل المؤلفات التي تنهج في التصدي لمسألة التاريخ البشري نهجا علميا قائما على بحث العوامل الموضوعية لتقدم المجتمع الانساني.

واذا قرأنا مقدمة ابن خلدون بامعان بدافع معرفة افكاره الاقتصادية والبحث فيها، وجدنا انفسنا ملزمين بالاجابة على السؤال التالي: ما هي الفكرة الاساسية في انتاج ابن خلدون ؟ جملة افكار اقتصادية، ترافق، بصورة متفاوتة، موضوع “المقدمة” نفسه.

يمكن القول ان موضوع “المقدمة” هو بايجاز، تفسير اسباب نشوء، تطور، انحطاط وزوال الحضارة، والتأريخ لمصير الحضارة المغربية على وجه التحديد. هذا التاريخ، كتاريخ للحقبات التاريخية المتعاقبة، هو ايضا تاريخ الصراع الاجتماعي الذي “يهتم بما ينتجه البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش” (المقدمة – تاريخ العلامة ابن خلدون. دار الكتاب اللبناني، بيروت 1979، ص 57).

وفي الفصل الخامس من “المقدمة” الذي يحمل عنوان “في المعاش” جمع ابن خلدون محصلة تفكيره الاقتصادي، على أن ذلك لا يعني أن الاجزاء الاخرى من الاثر المذكور تخلو من الاستطرادات أو الملاحظات العابرة التي تتناول الحياة الاقتصادية مع الجسم الاجتماعي للمجتمع المغربي في القرنين الرابع والخامس عشر. ويظهر البناء الضمني بهذا الفصل، على ما يبدو، أن موضوع الدراسة هو التالي: يتوقف نشوء وتطور المجتمع المتحضر، اساسا على العمل المنتج الذي ينظمه المجتمع. فالعمل المنتج ضروري لظهور الفائض ينظم بدوره الانتقال من حياة البداوة الى حياة الحضر. اما الشرط الضروري والكافي لاتساع مجال التطور ورسوخه فيتمثل في تحاشي استخدام هذا الفائض استخداما غير انتاجي. وبعبارة اكثر تبسيطاً: على المجتمع أن يحول دون امتصاص العمل غير المنتج نتائج العمل المنتج المادية، وإلا انحط وتقهقر الى المرحلة التاريخية التي بدأ منها.

ويبدو مقترب ابن خلدون المنهجي، في هذا السياق، مدهشا في صرامته، فهو يقدم لنا مفاهيم يختزنها الى محتواها الاجتماعي الوحيد: العمل.  

ولأن موضوع دراسة ابن خلدون الرئيسي هو التاريخ الاجتماعي للعالم العربي كتعبير نوعي عن الحضارة العربية/الاسلامية، فقد قام بحوصلة عمل وحركة التشكيلة الاجتماعية الواقعة تاريخيا في بلاد المغرب. إن التفكير من قبل ابن خلدون حول حركة الاقتصاد في مجمله سواء من وجهة نظر الانشطة الاقتصادية أو من وجهة نظر الدولة والمجتمع هو ضرورة منهجية تفسر حركة المجتمع المغربي. ويبدو أن الفكر الاقتصادي عند ابن خلدون قد بلغ مستوى من النضج هو الاوج حيث لم يكن التجديد أو المضي قدما بهذا الفكر ممكنا الا بتقدم التشكيلة الاقتصادية المغربية وتحولها في اتجاه متقدم، وهو ما لم يحصل. ولهذا ومن بين ما نجد في الفكر الاقتصادي الاجتماعي لابن خلدون مفهوما ووعيا حادين للتقهقر والتأخر والتضاؤل والانحطاط، وبكلمة واحدة ما نسميه بالجدلية التقهقرية.

عرض مقالات: