في بداية أيار 1893 سار عشرات الآلاف في شوارع فيينا بمناسبة اليوم العالمي للعمال الذي نظمته الرابطة الاشتراكية الأممية حديثة النشأة آنذاك (تأسست في 1889) تعبيرا عن القوة  المتصاعدة للحركة العمالية وما قدمته من مطاليب  اجتماعية واقتصادية وسياسية. وقد دعمت التظاهرات من قبل حزب العمال الديمقراطي الاشتراكي الذي تأسس في مؤتمر هاينفيلد في 1889 بقيادة فيكتور أدلر، الذي رسم برنامج ورؤية الحزب، وعرف ببرنامج هاينفيلد الذي أكد على اهمية خوض النضال السياسي وتحقيق مطاليب العمال بأقل ما يمكن من الضحايا وعبر النشاط البرلماني والعمل داخل النقابات وبهدف تدريب الطبقة العاملة لتحقيق الإصلاحات السياسية والاقتصادية.

وبرز ثلاثة من الناشطين في التنظيم الطلابي وهم كارل رينر (1870-1950) ورودلف هيدرلنج (1877-1941)، الذي انتقل الى المانيا لاحقا، وماكس أدلر(1873-1937 )، وقد واصلوا نشاطهم على الرغم من القمع البوليسي والاعتقالات الواسعة. وفي 1895 أسسوا الجمعية الحرة للطلبة والاكاديميين الاشتراكيين، وانضم اليهم أوتو باور (1881-1938). وبرزوا كممثلين لما عرف باسم المدرسة الماركسية النمساوية وهي ليست مدرسة او معهدا مثل فرانكفورت (مدرسة للنظرية الاجتماعية والفلسفة النقدية افتتحت عام 1914 مرتبطة بمعهد الأبحاث الاجتماعية في جامعة غوته في مدينة فرانكفورت وبعد الحرب العالمية الثانية انتقل الى أمريكا) بقدر ما هو توصيف لمنظومة الأفكار التي تبنوها.  وكان جوهر فهمهم لها منطلقا من قناعتهم بروح الماركسية ولكن بعدم اعتمادها كمنظومة فكرية مغلقة غير قابلة للتطور، وبالاستفادة مما سبقها من مدارس فلسفية، وبشكل خاص ايمانويل كانت ( 1724-1804)، وهو فيلسوف ألماني    وآخر فلاسفة مرحلة التنوير الذي لم يعتبره ماركس كأحد مصادره مثلما فعل مع هيغل (1770-1831) الذي طور الفكر الديالكتيكي ولكن من مواقع مثالية،   وفيورباخ (1804-1872) وهو عالم انثروبولوجي وفيلسوف ألماني عرف بنقده للديانة المسيحية. ولهذا لم يجدوا ضيرا في اغناء الماركسية بفلسفات أخرى لا تضر بنقاوتها بل تغنيها حسب تقديرهم.

ومن مساهمات التيار الماركسي في النمسا دراسة الأسس النظرية والمعرفية للماركسية. فاتفقوا مع اطروحات ماركس حول القيمة والصراع الطبقي والمادية التاريخية، الا انهم تحفظوا على تقسيم الفلسفة الى معسكرين مادي ومثالي وعلى اطروحات انجلز حول المادية التي، افتقدت، في رأيهم، الجانب النقدي بالمفهوم الكانتي، لأنها نظرية علمية تختلف عن العلوم التجريبية وليست ايدلوجية للطبقة العاملة، وأشبه بنظرية داروين للتطور. وهي في متناول الجميع على خلاف المتشددين الذين يعتبرون الماركسية نظرية علمية وسلاحا فكريا بيد الطبقة العاملة يجب حماية نقاوتها من التحريفية والأفكار الغريبة، كما في كتابات الماركسيين في روسيا الذين تمثل لهم موقفا نظريا وسياسيا.

وقد حاول الماركسيون النمساويون التواصل مع من هم أبعد من الذين يتبنون الماركسية لاعتبارات متعلقة بالصراع الطبقي. فهي لديهم شاملة وصالحة للجميع بسبب جوهرها ودفاعها عن القيم الإنسانية، وخاصة الحرية والتأخي والمساواة. وكانت أنسنة الماركسية احدى مميزات المدرسة النمساوية. وعلى صعيد الممارسة كتبوا عن مجتمع المستقبل المثالي الذي يتضمن أقل ما يمكن من السلطوية والمؤسسات القمعية وقدرا اكبر من حرية الإدارة الذاتية، عندما تصبح الملكية الجماعية أداة للتغيير الاشتراكي، حيث سيتعامل مجتمع المستقبل مع الفرد ليس كأدوات بل ان إسعاده هو هدف بحد ذاته.

وتميزت أطروحاتهم الفكرية التي انتشرت في أوساط الحركات اليسارية في أوروبا  برفضها ما دعا اليه برنشتاين (1850-1932) الذي أسس حركة الاشتراكية التدريجية الإصلاحية والتحالف مع الليبراليين في البرلمان الألماني، ورفضوا أيضا آراء روزا لوكسمبورغ (1871-1919 ) حول العمل الجماهيري الثوري الواسع تخوفا من أثارة الصراع مع السلطة النمساوية. وكان لهم نشاط اعلامي واسع ودعاية للمشاركة في البرلمان والنقابات في النمسا واستخدام الإضرابات كسلاح نضالي وحيد.

وفي ١٩٠٣ تم تأسيس مدرسة المستقبل للعمال في فيينا. وفي 1904 صدرت صحيفة “الدراسات الماركسية”، وضمت رئاسة التحرير هيلدرنج وأدلر، وكان هدفها تطوير الماركسية عبر الدراسات الاجتماعية والتاريخية والاقتصاد السياسي والفلسفة.

سياسيا حاول الماركسيون النمساويون الدفع باتجاه مسار سياسي معتدل يهدف الى تطوير التعليم والصحة والتنظيم النقابي والعمل في البرلمان النمساوي، مواصلين تعزيز دور الحزب في النقابات، ولكنهم  حققو نجاحا قليلا، ضاع في  الفوضى التي أشعلتها الحرب العالمية الأولى والانقسام الاثني الحاد في داخل الإمبراطورية النمساوية المجرية .

وفي عام 1919  انقسمت النمسا والمجر على أسس اثنية وظهرت جمهورية نمساوية مستقلة اصبح  كارل راينر أول رئيسا للجمهورية وأوتو باور وزيرا للخارجية. وكانت تتملكهم القناعة بإمكانية الوصول الى الاشتراكية عبر الطريق البرلماني، وإضفاء طابع اجتماعي على الصناعات الرئيسية، واعتماد التخطيط الاقتصادي وبناء دولة الرفاه وانشاء مؤسسات مجالس العمال لتمثيلهم في المصانع، رافضين النموذج البلشفي المعتمد على دكتاتورية البروليتاريا   والمجالس العمالية، معتبرين ان تجريد غير العمال من حقوقهم السياسية والاقتصادية سيزيد من الاحتقان الاجتماعي، الذي قد يصل الى الحرب الاهلية،   وأشاروا الى مخاطر بناء دولة بوليسية. واعتبروا الثورة البلشفية في روسيا خطأ  لان الاشتراكية لا تبنى بدون الديمقراطية. وبسبب الطبيعة الفلاحية للمجتمع الروسي فان الطبقة العاملة هم أقلية. كما رفضوا محاولات إيجاد أممية ثالثة تبعد الاشتراكيين الإصلاحيين من صفوفها .

وفي الفترة ما بين 1918 -1934 عرفت عاصمة النمسا باسم “فيينا الحمراء” لان الحزب الديمقراطي الاشتراكي كان يحصد أغلب الأصوات. وخلال هذه السنوات نفذت الحكومة برنامجا استثماريا ممولا من الضرائب التصاعدية لدعم القطاعات الخدمية والصحية والتعليمية وبرامج الإسكان. واستخدم الحزب نفوذه في الحكومات المحلية لتحسين الظروف الحياتية للسكان الذين كانوا يعانون من زيادة معدلات التضخم والبطالة ونقص الغذاء والسكن وأنشأوا أسس مدينة خاصة للعمال اعتبروها نموذجا للمستقبل .

وقد تغير الوضع في اوروبا والعالم بعد تصاعد الرأسمالية الاحتكارية والانهيار الاقتصادي الكبير في عام 1929 وبروز الحركات الفاشية التي اعتمدت خطابا شعبويا وجذبت الى صفوفها جماهير واسعة. ولم تكن الحكومة الاشتراكية مستوعبة ومتهيئة للتصدي لهذا التحول النوعي فكريا أو تنظيميا، فواصلوا ذات السياسات باتباع التقشف لتقليل آثار الركود الاقتصادية والاجتماعية مع الالتزام بقواعد اللعبة البرلمانية الليبرالية حتى جاءت اللحظة المناسبة للفاشية في النمسا التي اتخذت مسوحا دينيا للبدء بالعنف ومطاردة  القيادات والكوادر اليسارية في الشوارع وتصفيتهم عبر الاغتيالات واضعاف هيبة الدولة، بينما كان موقف قيادة الحزب مترددا خشية من اندلاع حرب أهلية. وكانت النتيجة فوز الفاشيين في 1934 وقد كشفوا عن نياتهم الحقيقية في التحول نحو الدولة البوليسية التي كان  من أولوياتها تنفيذ خطة منظمة لتصفية اليسار سياسيا وجسديا، وتحقق ذلك  بسهولة. وحتى عندما لجأ الاشتراكيون لاحقا الى حمل السلاح سحقتهم الدولة الفاشية في النمسا في بضعة أيام وكانت خسارة فادحة ونهاية مأساوية لليسار النمساوي.

لقد فشل الحزب في النمسا في الاستفادة من تجارب الحركات الثورية التي سبقته  وذهب ضحية وهم النجاحات التي حققها في فترة قيادة السلطة، خاصة في فهم جوهر الصراع الطبقي وان البرجوازية لن تتخلى عن مصالحها بل ستعمل على استردادها بكل الوسائل الممكنة ومنها العنف والإرهاب المنظم ضد جماهير اليسار وضد البرامج الإصلاحية الهادفة الى تقليل معاناة الفئات المسحوقة والمهمشة، وستستخدم كل الوسائل وخاصة اذرعها المسلحة لاستفزاز اليساريين وتهديد المواطنين ورسم الخطط لتصفيتهم كما حدث في انتفاضة 1919 في المانيا أو لاحقا في ستينيات القرن الماضي في أندونيسيا والعراق في 1963 وتشيلي في السبعينيات.

عرض مقالات: