يبدو عنوان النظام الجديد والسلطة الجديدة متناقضا. وهو كذلك. إنه مبنيّ على مفهوم التفاوت بين البناء التحتي والبناء الفوقي الذي بلوره لينين في سجاله مع النزعة الاقتصادوية التي تقول بمرحلتي الثورة. ومعادلة «روسيا المتخلفة اقتصاديا والمتقدمة سياسيا» هي التعبير المحلي عن هذا التفاوت. فيكون هدف الثورة أن تتولى روسيا المتقدمة سياسيا قيادةَ روسيا المتخلفة اقتصاديا نحو التقدم. وهو المفهوم الذي يتحكم بتعريف الثورة المنتصرة، أهدافها، قواها، مؤسساتها ووسائلها.

بُعيد سقوط الحكومة المؤقتة، بدأ لينين خطابه الأول أمام سوفييت بتروغراد بإعلانه «الآن سنبدأ في بناء المجتمع الاشتراكي». لم يباشر ببناء المجتمع الاشتراكي. عيّن له تحليله للدولة والمجتمع في روسيا القيصرية التي انهارت، ولديناميات وحدود قوى الثورة، وأيضا تبيّن له من إدراكه التفاوت بين البناء التحتي والبناء الفوقي، أن «تخلف» روسيا الاقتصادي يقتضي على السلطة القائمة باسم العمال تنفيذ العدد الأكبر من المهمات المسماة «ديموقراطية»، أي تلك تصفي بقايا العهد القيصري الإقطاعي الاستبدادي وهي المهمات التي تُنسب نظريا على أنها واجبة التحقيق في ظل صعود البرجوازية إلى السلطة أو التي تتحقق في ظل سلطتها. على أنه، في مجرى التاريخ الفعلي، نادرا ما تم تنفيذ تلك المهمات البرجوازية والديموقراطية المفترضة بواسطة السلطة البرجوازية، أو أنها نُفّذت جزئيا أو فُرض تنفيذها على البرجوازية بالنضالات الشعبية والثورات المديدة. فإذا أخذنا إجراءا واحدا من الإجراءات الديموقراطية الأساسية، الذي هو الحق في الاقتراع العام، قد رفعته الحركات الشعبية في بريطانيا شعارا لها منذ القرن السابع عشر للرجال فقط خلال ثورة ١٦٤٢ والحرب الأهلية التي أعقبتها، وتبنته الحركة العمالية مطلبا سياسيا رئيسا لها وناضلت من أجله في القرن التاسع عشر بقيادة الحركة الشارتية خصوصا. لكن هذا المطلب لم ينفّذ إلا مطلع القرن العشرين في العام ١٩١٨ للرجال من دون شروط ملكية، ولم يشمل النساء إلا بعد عقد من الزمن. كذلك الأمر، أعلنت الثورة الكبرى في فرنسا حق الاقتراع للرجال في دستور العام ١٧٩٢ في ظل سيطرة اليعاقبة على الثورة، لكنه لم يطبق بعد سقوط الثورة. ولم يتحقق هذا الإنجاز الديموقراطي إلا تحت ضغط ثلاث ثورات — ١٨٣٠، ١٨٤٨ وكومونة باريس ١٨٧١. فقد أعلنت ثورة ١٨٤٨ حق الاقتراع للرجال، ثم ألغي في الردة التي أعقبتها، ونفذته كومونة باريس، مع حذف الشروط الملكية التي كانت تلازمه، ثم سقط الإجراء مع هزيمة الكومونة. واقتضى الأمر عقودا من النضالات الشعبية ليستكمل الحق في الاقتراع في العام ١٩٤٤ عندما شمل حق الاقتراع للنساء.

مهما يكن، يفسر لينين مفهوم «الدكتاتورية» على أنه حكم الأغلبية المجالسية. وفي دفاعه عن هذه الصيغة للسلطة السياسية، يساجل ضد ما يسميه «الوهم النموذجي للبرجوازية الصغيرة» وهو فكرة «الأغلبية». يقول عنها إنها فكرة غامضة، ذلك أن الأغلبية ذاتها قد تغيرت بعد ثورة شباط. في الوضع الثوري الجديد، لم تعد الأكثرية الانتخابية — النيابية في مجالس الدوما هي مقياس الشرعية الشعبية، لأن أجهزة تمثيلية شعبية مباشرة وبديلة قد نشأت، هي مجالس السوفييت. والأغلبية الواجب كسبها موجودة في مجالس السوفييت. لكن الأخيرة، قياسا إلى مجموع سكان روسيا، أقلية، وإن تكن مجالس فاعلة وتضم أوعى العناصر من عمال وفلاحين وجنود. كيف حل هذه المفارقة؟ يحلها لينين على هذا النحو: مجالس السوفييت أقلية تمثل الأكثرية، لأنها تمثل الأكثرية الفعلية، ويقصد بها الأكثرية السكانية العددية. والأهم أن ما يجعل التمثيل المجالسي حقيقيا هو طابعه المباشر. العمال والفلاحون والجنود يمارسون فيه سلطتهم مباشرة على مندوبيهم من خلال حقهم في نزع الثقة عنهم واستبدالهم في أي وقت.

يبقى أن شرط تحقيق التمثيل الحقيقي للأكثرية الحقيقية، وفق لينين، هو انضمام غالبية البرجوازية الصغيرة إلى الطبقة العاملة في اللحظة الحاسمة والمكان الحاسم. فهذه هي الحليف الرئيس و«الخصم الأيديولوجي» الرئيس للطبقة العاملة في آن. أما اللحظة الحاسمة فكانت انحياز غالبية البرجوازية الصغيرة إلى الطبقة العاملة في شهر أيلول بعد هزيمة مؤامرة كورنيلوف، عندما استطاع الحرس الأحمر البلشفي منع سقوط الجمهورية في وجه جيوش الجنرال القيصري.

يكتسب مفهوم «ديموقراطية» عند لينين معنيين رئيسين: تصفية المؤسسات والقوانين والإجراءات والقيود التابعة للنظام القيصري الإقطاعي من جهة، وتحقيق المساواة السياسية والقانونية بين المواطنين والاعتراف بحق شعوب روسيا في تقرير المصير، من جهة أخرى. ومن أبرز الإنجازات الديموقراطية التي حققتها السلطة السوفييتية الوليدة، والتي نادرا ما يتم ذكرها:

الاقتراع العام، بما فيه حق الاقتراع العام للنساء. ولم يقتصر الأمر على هذا بل كانت روسيا السوفييتية أول دولة في العالم تعيّن امرأة في منصب وزاري، هي ألكسندرا كولونتاي، المناضلة الشيوعية والنسوية؛

إعلان حق تقرير المصير لقوميات وإثنيات ومذاهب روسيا في ظل نظام اتحادي؛

فصل الكنيسة عن الدولة؛

اعتماد نظام مدني للأحوال الشخصية؛

إطلاق حملة لمحو الأمية؛

تحقيق ديموقراطية التعليم؛

عدم التمييز بين أطفال وُلدوا خارج الزواج وأطفال وُلدوا داخل الزواج؛

إلغاء القوانين التي تمنع الإجهاض وتلك التي تفرض عقوبات السجن على المِثليين، إلخ.

تعرّض هذا المفهوم البلشفي للسلطة، والممارسات التي ارتبطت به، إلى الكثير من النقد في الحركة الشيوعية والاشتراكية داخل روسيا وخارجها. من أبرز النقاد القائدة الشيوعية الألمانية روزا لوكسمبورغ التي كانت في طليعة من أيّد ثورة أكتوبر. وروزا صاحبة مفهوم للديموقراطية الاشتراكية لخصته في معادلة شهيرة «الحرية لأنصار الحكومة فقط، لأعضاء الحزب الواحد فقط — مهما كان عددهم — ليست حرية على الإطلاق. الحرية هي دوما وحصرا حرية الذي يفكر على نحو مخالف». وقد برر لينين وليون تروتسكي الأمر في ردهما على روزا بحجة أن نمط السلطة السوفييتية تفرضه ظروف روسيا المتخلفة.

بعد تبني «السياسة الاقتصادية الجديدة»، في ختام الحرب الأهلية ونهاية مرحلة «شيوعية الحرب»، تحولت مهمات «الدكتاتورية الديموقراطية للعمال والفلاحين» إلى تحقيق التراكم الأولي لرأس المال، أي أن مهمة السلطة السياسية المتقدمة باتت مهمة انتشال روسيا من تخلفها، وهو هدف تنموي تحديثي، الأمر الذي دفع لينين إلى إعادة تعريف الشيوعية على أنها «سلطة المجالس وكهربة روسيا».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مجلة “بدايات” – االعدد 34 – 2022

عرض مقالات: