لم تؤد العقوبات التي رافقت الحرب في أوكرانيا الى تعطيل التدفقات التجارية العالمية الهامة والى ارتفاع سريع لأسعار الطاقة فقط، بل الغذاء أيضا، اذ تعد روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا من بين أكبر المصدرين العالميين للحبوب والأسمدة. لقد انهارت العولمة الرأسمالية فعلا، بقدر تعلق الأمر بالسلع الأساسية والغذاء والوقود الأحفوري. وستؤدي العقوبات الغربية على الأسمدة الروسية والبيلاروسية إلى تقليص الإنتاج الزراعي في العديد من البلدان.

لا تساهم المواجهة الإمبريالية بين الشرق والغرب في حرب أوكرانيا بانفجار الأسعار فقط، بل لجأت البلدان غير المشاركة في هذه المواجهة منذ فترة طويلة إلى تدابير الحماية لضمان أمنها الغذائي واستقرارها السياسي الداخلي. وبسبب الارتفاع الهائل في الأسعار والفجوات الوشيكة في العرض، أصدرت إندونيسيا، على سبيل المثال، حظرا على تصدير زيت النخيل، مما أدى إلى التفاقم في شح العرض، لا سيما في جنوب الكرة الأرضية، حيث تسببت الحرب بالفعل في انهيار تصدير زيت عباد الشمس الأوكراني. وتصرفت الهند بطريقة مماثلة، فقررت أخيرا حظر تصدير القمح.

إن التضخم واختناقات العرض، التي حدثت بالفعل قبل الحرب بسبب مكافحة وباء كورونا، تكتسب زخماً الآن كجزء من التراجع المفاجئ والسائد للعولمة. ولكن حتى هذا الانفجار الكبير، الذي هز التمويل وتدفق السلع العالمي، لم يأت من فراغ. فقد انتشرت المساعي لمراجعة العولمة، مثل مرض خبيث، منذ سنوات طويلة، متمثلة بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي جسد تناقضات إنتاج السلع الرأسمالية بشكل لا مثيل له. انتخب ترامب من قبل قطاعات الفئات الوسطى الأمريكية الفقيرة، وشرع في جعل أمريكا المتراجعة صناعيا، والمبتلاة بعجز تجاري هائل، "عظيمة" مرة أخرى، من خلال إقامة حواجز تجارية. كان الهدف من نزعة ترامب الحمائية: إعادة تصنيع الولايات المتحدة.

لم تتطور بشكل متساوٍ ديناميكيات المديونية، بعد اعتماد السياسات المالية لليبرالية الجديدة على خلفية انتهاء الطفرة الفوردية الكبرى التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وتركت النظام العالمي يعمل بالقروض بشكل متزايد. لقد واجهت البلدان التي تعاني من عجز عال في الموازنة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية، وبلدان جنوب أوروبا، بلدانا امتازت بطاقة تصديرية عالية. أدى ذلك إلى تشكل دوائر العجز المالي، التي ازداد وزنها وتأثيرها باستمرار خلال العولمة وشكلت مسار الأزمات في العقدين الأولين من القرن الحادي والعشرين (فقاعة العقارات، أزمة اليورو). واضح أن العولمة ليست سبب عمليات أزمات الرأسمالية باضطراباتها، كفقاعات الأسواق المالية وأزمات الديون، ولكنها شكلت مسارها التاريخي.

تميزت أكبر دورة عجز في المحيط الهادئ بين الولايات المتحدة والصين، في ان الصين الصاعدة باعتبارها "ورشة العالم الجديدة"، صدرت كميات هائلة من البضائع إلى الولايات المتحدة الأمريكية المتراجعة صناعيا، وبالتالي حققت فوائض تجارية هائلة، بينما تدفق في الاتجاه المعاكس تيار مالي عبر سندات ائتمان الولايات المتحدة، بحيث أصبحت الصين أكبر دائن أجنبي لواشنطن. وتشكلت دائرة عجز مماثلة أصغر، بين ألمانيا والأطراف الجنوبية لمنطقة اليورو، مع بدء اعتماد اليورو كعملة، وحتى أزمة اليورو.

وهكذا، فإن العولمة لم تتميز فقط بتطور سلاسل التوريد العالمية، بل كانت تتشكل أيضا من عولمة مقابلة لديناميكيات الديون، والتي تحققت من خلال دورات العجز المالي، والتي، كما ذكرنا، ارتفعت بشكل أسرع من الناتج الاقتصادي العالمي في العقود الأخيرة، وبالتالي عملت كمحرك اقتصادي مهم من خلال الطلب الممول بالقروض. ان العولمة هي التي أنتجت هذه الاختلالات العالمية الهائلة كرد فعل للنظام، وكهروب إلى الأمام من التناقضات الداخلية المتزايدة لنمط الإنتاج الرأسمالي الذي يخنق بفعل تطوير انتاجيته.

يمكن دراسة ما يحدث الآن على الصعيد العالمي جزئيا باستخدام أزمة اليورو: فطالما أن جبال الديون آخذة في الازدياد وفقاعات السوق المالية المتصاعدة مفهومة، يبدو أن جميع البلدان المعنية تستفيد من هذا النمو المعتمد على القروض. ولكن عندما تنفجر الفقاعات، تبدأ المعركة حول من يتحمل تكاليف الأزمة. في أوروبا، كما هو معروف جيدا، استغلت برلين الأزمة لتحويل  تكاليف الأزمة إلى جنوب أوروبا (تعد اليونان المثال الأبرز – المترجم) بواسطة إملاءات التقشف سيئة الصيت. وعلى المستوى العالمي أصبح انهيار الاقتصاد الذي يعاني من عجز كبير ممول بالديون وشيكا، والذي ظل حياً أخيرا بشكل أساسي بواسطة السياسة النقدية التوسعية للبنوك المركزية.

إن القيمة المتراكمة في المجال المالي، رأس المال "الوهمي" الذي لم يتم إنشاؤه من خلال استخدام قوة عمل، ستنخفض قيمتها بسبب عدم وجود نظام تراكم جديد في إنتاج السلع. إن التضخم المتزايد، الذي تجد السياسة النقدية البرجوازية في ضوئه نفسها في فخ أزمة لا يسمح إلا بالتضخم و / أو الركود، هو بالضبط تعبير عن الانخفاض الحتمي للقيمة. وبالنسبة للعديد من البلدان التي كانت مرتبطة سابقا بالعولمة بواسطة دورات العجز المالي والمنافسة على مواقع الانتاج، فإن التكاليف المتزايدة للأزمة تتجاوز المزايا المتحققة الآخذة في التآكل للاقتصادات التي تعاني من عجز مالي، بحيث تكتسب ميول الطرد الوطنية والإقليمية اليد العليا وتفرض انهيار العولمة. وهذا تناقض مرتبط بالأزمة، والرأسمالية مليئة به.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*محور من بحث للكاتب بعنوان: لماذا لن يكون هناك نظام مستقر بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا؟ نشر في 31 أيار 2022 في موقع "شيوعيون" الألماني.