قطعت النساء عبر التاريخ أشواطا طويلة ومنهكة لاثبات الجدارة امام المجتمع الذكوري الذي سيطر علي حياة البشر لقرون، وهو لايزال موجودا بل واقول مهيمنا رغم كل ما تحقق من انتصارات في اتجاه تحرر المرأة وتحريرها.

كنت قد تحفظت طويلا علي استخدام تعبير “الذكورية” الذي كان قد شاع في بعض الادبيات النسائية التي لشدة تطرقها كادت تختزل الصراع الاجتماعي في ما يشابه الحرب بين النساء والرجال، ووقعت لذلك في اخطاء ادت في بعض الاحيان لخسارة حلفاء لحركة تحرير المرأة من الرجال المستنيرين، حتي ان اوساطا اجتماعية اخذت تنظر بشك للجمعيات النسائية وللحركة برمتها حتي اعتبرها البعض مستوردة.

ويدلنا تاريخ البشرية الذي يكشف لنا العلم تباعا بعض خفاياه – يدلنا علي معالم الطريق الذي قطعته البشرية عبر القرون لتتراكم فيه النتائج السلبية لمحاولات تهميش النساء واقصائهن من الساحة العامة لأسباب بالغة التعقيد والتركيب.

ونبأنا العلم عن مدي الخسارة التي لحقت بالتقدم الانساني نتيجة لتهميش النساء واهدار طاقاتهن وصولا في بعض الاحيان لحبسهن في البيت تحت وصاية الاب او الزوج، والرقابة المشددة من الاسرة، ونعرف ان الاسرة لاتزال في كل بلدان العالم اسرة ابوية بدرجات متفاوتة، تتحكم فيها الي هذا الحد أو ذاك الافكار التي تضع المرأة في مكانة أدني.

ومع ذلك فأن حركة التاريخ لم ولن تتوقف، كما لم ولن يتوقف السعي المشترك بين حركات تحرير المرأة التي تضم نساء ورجالا من اجل تغيير الاوضاع الظالمة للنساء، وبين هذه الحركات وقوي التقدم في كل المجالات، وبخاصة في مجال الافكار.

وكانت حركات تحرير المرأة منذ نشأتها قبل أكثر من قرن قد وقعت في بعض الاخطاء التي ادت الي تعطيل مسيرتها. ومن ضمن هذه الاخطاء، بل وأبرزها ان البعض من قيادتها قد اعتبرن الرجال- كل الرجال هم خصوم لتحرر المرأة، وترتبت خسائر علي هذه النظرة التي تحولت مع الزمن إلي منظومة فكرية اقتربت كثيرا من العنصرية حين همشت الصراع الاجتماعي وتداعياته في شتي المجالات لنضع قضية تحرير المرأة في اطار ضيق حين اختزلتها في الصراع شبه الابدي مع الرجل.

ولكن التاريخ دأب علي تصحيح المنظورات الضيقة والخاطئة. وحين برز في الساحة العالمية والوطنية رجال منصفون، ومنهم مفكرون كبار رأوا ان الانسان واحد، وأن التصنيف الجنسي لا يضيف لأحد أو ينتقص من اخر، جري بالتدريج تقويض كل الاسس التي قامت عليها العنصرية ونهض باسمها التمييز ضد البشر علي اساس الجنس او اللون أو الدين او الطبقة. ولكن تقويض ما هو سلبي في الافكار لا يعني تلقائيا زوال هذا السلبي تماما.

وقد علمتنا الحياة انه رغم كل المياه التي جرت في انهار المساواة والكرامة الانسانية والعدالة، وكلها قيم ترسخت وتعززت عبر كفاح البشر والكادحين بخاصة من اجلها، رغم كل هذا لاتزال هناك قيود وافكار بل وايديولوجيات تتأسس جميعا علي دونية النساء.

وترتبط هذه المنظومة من الافكار عادة بالصراع الاجتماعي، ولطالما انتصر سلاح الافكار البتار في بعض معارك البشر خلال سعي الكادحين بخاصة للحصول علي حقوقهم المشروعة، ويعلمنا التاريخ أن نتائج ممارسة الافكار تبقي طويلا بعد زوال  هذه الافكار، كما أن الافكار بدورها لاتزول بسهولة.

كما جري علي الصعيد العالمي توافق الديانات كافة علي وضع المراة في مكانة ادني، وغالبا ما ارتبط هذا الوضع المتدني بجسد المرأة ووظائفه، اذ انقسم هذا الجسد بين التمجيد والتحقير.

وتميزت الادبيات الخاصة بأوضاع النساء ومكانتهن بالتعقيد والارتباك، سواء ارتبط ذلك كله بالديانات أو الفلسفات، وهو ما حدث في كل الثقافات بدرجات متفاوتة.

ويبقي أن التاريخ حتي حين يعود الي الوراء خاصة فيما يتعلق بالقضايا الكبري التي اسهمت بشكل رئيسي في صنع مسيرته، فإنه يعود ويواصل مسيرة التقدم، وهو التقدم الذي تأسست عليه الحضارات عبر التاريخ.

واذا ما تأملنا بشكل نزيه في ماهية القوي التي وقع عليها العبء الاكبر في انجاز هذا التقدم فدفعت ثمنه، وقدمت التضحيات من أجل انجازه، اذا ما تأملنا فيه سوف نكتشف ان النساء دفعن ثمنا باهظا.

ووجدت النساء حلفاء اشداء علي طريق تقدمهن من الرجال مفكرين ومناضلين، وتخلصت حركات تحرير المرأة بالتدريج ومع الصعوبات التي واجهتها من بعض نقائصها واستقرت علي خريطة النضال الانساني من اجل التقدم والحرية والكرامة لكل البشر باعتبارها جزءا اصيلا من هذا النضال.

ومع ذلك يبقي الطريق طويلا ويحتاج الهدف المنشود اي تحرير المرأة لجهود وافكار، مع نضال اشد ضمن حركات التحرر الانساني احزابا ونقابات وجمعيات ودولا.

وقد علمتنا التجربة الطويلة لشعوب المستعمرات في مواجهة الامبريالية وكل اشكال الاحتلال والعنصرية ان نضال الانسان من اجل التحرر والحرية كان غالبا ما يتكبد خسائر كبيرة بسبب اقصاء النساء وتهميشهن بدعاوي قديمة ورجعية، حاولت هذه الدعاوي طويلا ان تتصدي للحركة التحررية الصاعدة خاصة اذا كانت تضم نساء، وذلك تحت ستار ادعاءات اخلاقية ساذجة ارتبطت غالبا بجسد المرأة الذي شوهته الرأسمالية ومزقته بين العورة والسلعة، وتاجرت به ضمن فلسفتها التي تستهدف الربح بأي ثمن حتي لو كان هذا الثمن هو كرامة البشر وانسانيتهم.

ولاتزال النساء في كل بلدان العالم يدفعن ثمن الظلم التاريخي الذي رافق المسيرة الانسانية كلها منذ بدء الخليقة ، ولكن نساء كثيرات وباسلات مازلن يتقدمن الصفوف ويجاهدن ضد كل اشكال الظلم ويتحالفن مع المظلومين في كل مكان نساء كانوا أو رجالا.

وما ضاع حق وراءه مطالب.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

«الأهالي» – 27 نيسان 2022

عرض مقالات: