رحل عن عالمنا المفكر الفيلسوف “سيد القمني” دون أن يثير رحيله رد الفعل الذي كان يتوقعه المثقفون. فالمثقفون وحدهم يعرفون قيمة هذا المفكر وسجله الحافل بالاضافات المهمة للثقافة المصرية.

ويثير رحيل “القمني” أسئلة قديمة جديدة قديمة لأنها لازمت تطورنا الثقافي المعاصر، ولم يتوصل المثقفون لإجابات عنها وتولد منها اسئلة جديدة, وهي ايضا جديدة لانها لاتزال فاعلة وحية في الضمير الثقافي الجمعي الذي لم يتوصل حتى الآن لإجابة شافية وأخيرة.

واذكر في هذا الصدد أن المفكر الراحل محمود أمين العالم كان قد انشغل طويلا بهذه الاسئلة, ورغم تعدده الواسع في الحياة الثقافية, فإنه لم يستطع اقناع غالبية المثقفين في جيله بمركزية هذه الاسئلة، وبأن الإجابة الصحيحة عنها يمكن ان تكون منطلقا لآفاق أرحب، لا في عالم الفكر فقط ولا في الثقافة عامة، وانما في حياة المجتمع بكل جوانبها.

وعرف مجتمعنا ما اسميه بالعزوف الجماعي عن الانشغال بالأسئلة الكبرى والقضايا العميقة واعتبرها “شغل مثقفين” كما درج القول.

وبالتدريج حدث انفصال عن المجتمع والفلسفة التي لاذت بقاعات الدرس وبأوساط المثقفين رفيعي الثقافة الذين بذل بعضهم جهودا مضنية لتقريب الفلسفة من الحياة وتبيان الروابط العميقة- والخفية احيانا بينهما, ولكن الانفصال اصبح حقيقة واقعة مع الزمن حتى بدا كأن الفلسفة ليست إلا ترفا أو ربما موضوعا للسفسطة بين المثقفين لا يعني بها الجمهور العام من قريب أو بعيد.

وكانت القوى الطبقية المسيطرة في المجتمعات الرأسمالية هي الأعلى صوتا ومقدرة في عملية تشويه الفلسفة، ذلك لأنها تعرف جيدا أن باب الفلسفة لو انفتح بوعى ونزاهة سوف يطلق إمكانيات بلا حدود لدى المواطنين الذين لا يعرفون أصلا انهم يتوفرون على مثل هذه الامكانات.

كذلك فإن هذه القوى التي تملك السلطة والثروة يتملكها الذعر من وعي الجماهير التي تفتح الفلسفة له الابواب، لأنه هو الوعي الذي كثيرا ما يتحول الي فعالية ثورية تهدف الي تغيير العالم، وتعرف تاريخيا أن مثل هذا الوعي حين تبلور بصورة موضوعية وعلمية فتح الطريق للتغيير الذي طالما تطلع إليه البشر، والمنتجون منهم بخاصة الذين طالما كان عملهم هو رأسمالهم, ولا يملكون غيره، وأخذوا يكتشفون مع مضي الزمن وتغير الافكار أن ما يملكونه هو ثمين جدا، وهو عصب قوتهم.

وتولدت في هذا السياق نظريات وأفكار ومنظومات كبري تتطلع جميعا لتغيير العالم/ وتغيير العالم هو الشعار والمطلب الذي اطلقه الاشتراكيون وهم يجتهدون لابتكار الافكار والطرائق التي تفتح الابواب امام الطبقة العاملة والفلاحين الذين يشكلون اغلبية السكان.

ونشط الرجعيون اصحاب المصلحة في استدامة الوضع القائم لتشويه الافكار والمناضلين الاشتراكيين. وكان السبيل الممهد امامهم لاجتذاب الجماهير المؤمنة من كل الديانات هو اتهام الاشتراكيين بالالحاد. وظل هذا الاتهام هو عصب المعركة الفكرية التي دارت رحاها ولاتزال بين الاشتراكيين وخصومهم في كل انحاء العالم تقريبا.

واثبت الفكر الاشتراكي حيوية فائقة، وقدرة على تجديد نفسه في مواجهة الضربات القاسية التي كان على رأس اهدافها فكرة أبدية النظام الرأسمالي العصي على التغيير. واثبت التاريخ انه لا شيء يستعصي على التغيير الا التغيير ذاته، لو أخذت انظمة رأسمالية تتهاوي امام نضال العاملين رغم الهزائم.

ونشط المفكرون والباحثون الاشتراكيون في تقديم رؤى جديدة وأفكار جديدة مستوحاة دائما من المعرفة الوثيقة بأوضاع الكادحين واحتياجاتهم، وتعرضوا في هذا السياق للملاحقة والاضطهاد والتعذيب وصولا الى القتل في السجون، اي أن الانتصارات والمكاسب التي انتزعها المنتجون والكادحون من القوي المهيمنة لم تكن مجانية بل دفعت فيها البشرية ولاتزال تدفع ثمنا باهظا.

ولايزال الطريق مع ذلك طويلا. فرغم ان الانقسام الطبقي قد تراجع الى حد ما تحت ضغط النضال الباسل للعاملين من اجل حقوقهم لكنه لايزال موجودا، بل وبفظاظة في بعض الاحيان والمواقع.

ويدلنا تاريخ الكفاح الانساني من اجل القضاء على الظلم والاستغلال على تنوع مدهش في مبادرات البشر وابتكاراتهم الفذة من اجل الوطن الحر والشعب السعيد, وهو ما يؤكد ان مواهب البشر الهائلة لايزال بعضها مطمورا تحت ثقل الظلم والاستغلال. بل وماتزال القوى الطبقية المهيمنة قائمة وهي شديدة الذكاء والحيوية, وماتزال قادرة على الحاق الاذى. ولابد في هذا الصدد أن نذكر أن هذه القوى هي نفسها التي اطلقت الاستعمارن لا بالسلاح فقط وانما ايضا بالافكار والمذاهب واستثمار الديانات لكي تبرر استئثارها بالسلطة والثروة.

واذا كانت كل العلوم قد تقدمت بسرعة مذهلة فسوف تبقي الفلسفة قادرة علي أن تفتح الابواب والعقول أمام الحلول المنشودة لكل ما تواجهه الانسانية من مشكلات وآلام. وحين اطلق ماركس صيحته عن بؤس الفلسفة كان ينتقد الانشغال بمجرد تفسير العالم بينما يدعو هو إلى تغييره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نقلا عن جريدة «الاهالي المصرية»12/4/2022

عرض مقالات: