أثار الصراع بين موسكو والعواصم الغربية، والذي يجري أواره على الأرض الأوكرانية، ملحقاً أفدح الأضرار بالشعبين الروسي والأوكراني، إختلافات عديدة بين اليساريين، بمختلف أطيافهم، ربما لأنها الحرب الأولى التي تنشب على هذا المستوى في أوربا منذ إنتهاء الحرب العالمية الثانية، مما عكس الحاجة لحوار جاد حول الموقف من الحرب اليوم في ظل العولمة الرأسمالية.

في البداية، لابد من التأكيد على أن ما جرى ويجري في التاريخ المعاصر، أثبت دوماً مصداقية الماركسيين، الذين يجعلون مستقبل البشرية خياراً من إثنين، إما اشتراكية أو بربرية. فإذا كانت السياسة الخارجية للرأسمالية هي امتداد

للسياسة الداخلية، فهي تشهد في ظروف السلام إستغلالاً بشعاً لشغيلة اليد والفكر داخلياً ونهباً لصوصياً للدول التابعة خارجياً، وذلك بفرض عبودية مختلفة الأشكال على تلك الدول، فيما تمثل ظروف الحرب نتاجاً بشعاً للمنافسة الإمبريالية، حيث يتقاتل الرأسماليون من مختلف البلدان حول من يجب أن يحصل على الجزء الأكبر من الثروات المنهوبة. ولعل أصدق وصف لذلك كتبته روزا لوكسمبوغ حين عللت قيام الحروب بين الدول الرأسمالية، بالتنافس لتأمين الأسواق الحالية والهيمنة على أسواق جديدة، تضمن تسويق الإنتاج الضخم من جهة وتصدير رؤوس الأموال من جهة مكملة.

ولهذا يتفق الكثيرون على إن تحديد الموقف من الحرب على أساس العذابات البشرية، رغم أهميتها ورفضنا المطلق لها، لا يتمتع بالدقة الكافية، بل يجب تعليل الموقف فكرياً عبر تحديد المصالح الطبقية لأولئك الذين يخوضون الحرب، والتي تكمن وراء كل النزاعات، سواء في أيام السلام أو عند إندلاع الحروب، تلك التي تخوضها القوى العظمى أو التي يقودها أتباعها من القوى الصغيرة، كما هو جار في السنوات الأخيرة. ومن البداهة القول بعدم وجود أية مصلحة لشغيلة اليد والفكر في أية حرب تخوضها الدول الرأسمالية في ظل عولمتها المتوحشة، مما يستدعي رفضاً لها من قبل الماركسيين وبدون قيد أو شرط.

الرأسمالية تعني الحرب

أكد لينين قبل أكثر من قرن على (اننا ندرك الصلة الحتمية بين الحروب والنضال الطبقي، وندرك انه يستحيل القضاء على الحروب دون القضاء على الطبقات ودون بناء الاشتراكية). لقد فشل العالم، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية من ايجاد سلام، ولو ليوم واحد، وذلك بسبب طبيعة الرأسمالية كنظام تنافسي يعتمد على العنف، داخلياً، بين الطبقات الاجتماعية، وخارجياً، مع الشعوب الأقل نفوذاً وتقدما تقنياً. ويسعى الى التغلب على أزماته الدورية، جراء التناقض بين العمل ورأس المال، عبر الحروب الخارجية، وهو أمر إشتدت الحاجة اليه في ظل العولمة والثورة المعلوماتية وسرعة تزعزع نظام القطب الواحد وإشتداد الكساد والمديونية (وصلت في الولايات المتحدة الى 160 ترليون دولار). وتشير الأرقام الى أن نصيب الفرد من الإنفاق العسكري في الولايات المتحدة قد وصل الى 804 دولار، في الوقت الذي سيؤدي فيه تخفيض الإنفاق الحربي الى خسارة ملايين الوظائف في البلاد. كما كان نصيب الفرد من الإنفاق العسكري في فرنسا 642 دولار وفي ألمانيا 355 دولار وفي بريطانيا 484 دولار وفي إيطاليا 356 دولار وفي كندا 253 دولار، في العام الواحد. يقول ماركس إن (ما يرعب الرأسمال هو غياب الربح.. فعندما يشم ربحاً معقولاً، يصبح الرأسمال مبتهجاً، وعند نسبة 20 في المئة يصبح جريئاً، وعند نسبة 50 في المئة يصبح مغامراً وعند نسبة 100 في المئة يسحق برجليه كل الشرائع الانسانية، وعند نسبة 300 في المئة، فانه لن يتراجع عن الاقدام على أية جريمة)!

صراع الوحوش

أصبحت روسيا بعد سنوات من إنهيار الاتحاد السوفيتي قوة اقليمية ذات سياسات إمبريالية، تسعى لتأمين مناطق النفوذ ومصالح الأمن القومي لرأس المال الروسي. ورغم ضعف روسيا قبيل ثورة إكتوبر العظمى فإنها كانت دولة إمبريالية على حد وصف لينين نفسه، حين كتب عن روسيا بأنها “البلد الأكثر تخلفاً من الناحية الإقتصادية، حيث الإمبريالية الرأسمالية الحديثة واقعة في شراك شبكة ضيقة بشكل خاص من العلاقات ما قبل الرأسمالية”. وحدد لينين سمات الدولة الإمبريالية، بالرأسمالية في مرحلة الاحتكار، حيث تلعب الإحتكارات دورا حاسما في الحياة الإقتصادية، وحيث يندمج رأس المال المصرفي مع رأس المال الصناعي، وتُخلق أوليغارشية مالية على أساس رأس المال المالي، فيتم تصدير رأس المال وتكوين احتكارات رأسمالية دولية تقتسم العالم فيما بينها. وينطبق هذا التحديد على روسيا اليوم، التي تعد بلداً صناعياً متقدماً، فيه درجة عالية من تركيز رأس المال، ويلعب قطاعه المصرفي دوراً رئيسيا في الإقتصاد، كما إن موارده واقعة تحت سيطرة الأوليغارشية الروسية، التي تتبنى سياسة، تضمن لها تسويق صادراتها من الطاقة والسلاح، فيما تهيمن على الأسواق في آسيا الوسطى والقوقاز، ولها أسواق مهمة في البلقان والهند والشرق الأوسط وأوربا الشرقية. وتمتلك هذه الدولة الإمبريالية، متوسطة النفوذ، ترسانة نووية ضخمة وتعد ثالث دولة في حجم إنفاقها العسكري. إن هذا كله يجعل من التدخل الروسي في أوكرانيا حرباً رجعية أمبريالية، لايمكن للماركسيين دعمها، ولا يمكن أن تجلب خيراً لمصالح شغيلة اليد والفكر في روسيا أو أوكرانيا.

ومن جهة مقابلة، تعتبر الولايات المتحدة، معقل العولمة الرأسمالية، والقطب العالمي الأوحد، والتي تعتمد سياستها الإمبريالية على الغاء دور الدولة الوطنية وتحقيق الهيمنة السياسية والإقتصادية عليها، وإستخدام كل الأدوات العسكرية والإقتصادية وما يسمى بالشرعية الدولية لفرض هذه الهيمنة. ويطرح منظروها، ومنذ سنين، فكرة معالجة الكساد الإقتصادي، الذي يّولد الأزمة الدورية للنظام الرأسمالي، من خلال إشعال الحروب الأقليمية والداخلية، لتجنب تخفيض الإنفاق الحربي، تلك الحروب التي عادة ما يتم اشعالها في المناطق التي تعاني من استقطابات قومية أو دينية، رغم تمتعها بثروات كبيرة.

العقوبات سلاح العصر

وفي عصر العولمة، حيث إشتدت عملية تمركز رأس المال المالي، وأصبحت الإحتكارات السلطة الفعلية، التي تهيمن على الإقتصاد والإستهلاك وصناعة السلاح وأنشطة الفضاء، وحيث يسود قانونا المنافسة والإستقطاب، يجري تعميم قسري للرأسمالية، عبر الترويج لقيم السوق والتجارة الحّرة والإنفتاح الإقتصادي والتبادل التجاري وإنتقال السلع ورؤوس الأموال وتقنيات الإنتاج والمعلومات، وفق نظام مقّيد ومهيّمن عليه من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. كما يتم استغلال الثورة التقنية والمعلوماتية لتأمين أكبر ثروة للرأسماليين شهدها التاريخ البشري، دون أي اعتبار لما يصيب الإنسانية والبيئة والثقافات من خراب، وتُحتكر القوة العسكرية والإعلامية والتكنولوجية، وتتحول الى ذراع ضارب لمصالح الرأسمال العالمي، وتتحطم مبادئ الأستقلال والسيادة الوطنية، ويشرعن التدخل الأجنبي بأشكال متعددة.

غير إن من المهم الإدراك، بأنه وعلى الرغم من ارتكاز العولمة الرأسمالية هذه على وحدة الإنتاج الراسمالي، فإن هناك الى جانب التناقض بين رأس المال وبين العمل، تناقض أخر بين التشكيلات الرأسمالية ذات المستويات المختلفة من التطور. واذ يخلق التناقض الاول اقصاءً للقوى المنتجة ونزاعات اجتماعية متواصلة، يؤدي الثاني غالباً الى صراعات حادة بين الدول الرأسمالية الكبرى وبين الدول الرأسمالية، المتعكزة على أسس قومية للتطور كما هو الحال في الاتحاد الروسي، حيث، وفي ظل هذين القانونين، يشكل صعود روسيا كدولة رأسمالية، خطراً على القطب الأوحد، يجب لجمه وتحديده، من خلال السعي لتفكيك الاتحاد الروسي وتقييد علاقاته والتضييق عليه في الأسواق وتهديد أمنه القومي وصولاً الى تحويله الى بلد تابع لمعقل الرأسمالية العالمية.

إن التنافس بين الدول الرأسمالية، لم يكن يوماً أمراً عابراً أو مرتبطاً بتطورات مكانية أو زمانية محددة، وسيبقى ملازماً للرأسمالية في كافة مراحلها. وبسبب المخاطر غير الممكن التعايش معها لأسلحة الدمار الشامل، إعتمدت قيادات العولمة المتوحشة سلاح العقوبات الإقتصادية والحصارات متعددة الأوجة، لفرض اراداتها، رغم إن هذه العقوبات لم تحقق سوى 30-40 في المائة من أهدافها حسب الخبير نيكولاس مودلر من جامعة كورنيل في مقال له بمجلة فورن بولسي، ولا ندري ما إذا كانت ستنجح مع موسكو البوتينية!

عرض مقالات: