ظهرت الرأسمالية كتشكيلة اقتصادية- اجتماعية، عبر تطور بنيتها الداخلية، المرتكزة على التوسع الرأسمالي، بغية تعظيم الأرباح الناتجة عن استغلال قوة العمل وموارد البلاد الطبيعية. وأنتجت الرأسمالية منظومة فكرية مستندة الى وحدة الأمة ونزاعها مع الخارج، بهدف تجميد النزاعات الطبقية في تشكيلتها الاجتماعية. كما انتقلت الرأسمالية المرتكزة على التوسع والربح الى الاسواق الخارجية لغرض الهيمنة والاستحواذ على قوة العمل الرخيصة والموارد الاولية في البلدان الاخرى. وقادت المنافسة الضارية بين الرأسماليات الوطنية الى حروب داخلية / خارجية وما نتج عنها من اقتسام العالم بين الدول الرأسمالية المتنازعة. غير أن الرأسمالية، إستطاعت بنزعتها الكولونيالية من ادامة وتطوير اسلوب الانتاج الرأسمالي من خلال منهجين أولهما الهيمنة على الأسواق الخارجية وثانيهما تحجيم الكفاح الوطني ضد جوهرها الاستغلالي.
وأفضى الكفاح الطبقي الذي خاضته الطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية الى تحسين شروط استغلالها، عبر قوانين اجتماعية نابعة من المساومات الطبقية، ومرتكزة على بناء سياسي يعتمد الديمقراطية في منظومة البلاد السياسية. وقد أدت هذه المساومات بين الطبقة الرأسمالية الحاكمة والطبقة العاملة الى تفاهمات طبقية، حصرت الكفاح الطبقي بحدوده الاصلاحية، القاضية بعدم التعرض، عبر الثورة الاجتماعية، الى سيادة الرأسمالية كطبقة اجتماعية في البناء السياسي.
التطور الرأسمالي
لقد مر اسلوب الإنتاج الرأسمالي بمراحل مختلفة من التطور، تمثلت في مرحلة رأسمالية المنافسة، وبعدها مرحلة الرأسمالية الاحتكارية، وصولا الى المرحلة الحالية المتسمة بالعولمة الرأسمالية. وتلازمت مراحل التطور الرأسمالي مع كثرة من التغيرات الاقتصادية - السياسية، على صعيد علاقات الانتاج وقواها الاجتماعية المنتجة فضلا عن تغير العلاقات الدولية وقواها المقررة.
وأدى انهيار الإشتراكية الفعلية الى وحدانية التطور الرأسمالي وسيادة قوانين تطوره في العلاقات الدولية، عبر التركيز على نهوج الالحاق والتهميش والتبعية. وأنتج ذلك عالماً تترابط أسواق دوله الرأسمالية، في أنساق ثلاثة، سادت في نسقه الأعلى الرأسمالية المعولمة، وفي نسقه الثاني الرأسمالية الاحتكارية، أما نسقه الثالث فتمثل بتبعية الكثير من دوله الوطنية للعالم الرأسمالي.
الرأسمالية المعولمة
تتطور الرأسمالية المعولمة (النسق الأول) في إطار ميولها البنيوية المتناقضة، في مسار يهدد سلام العالم وأمنه. وقد ارتبط هذا التطور مع انحسار الثورات الاجتماعية في دول النسق الثالث، وخفوت وتراجع القضية القومية مقابل تنامي المسألة الوطنية، ومساندة الرأسمالية المعولمة للنزعات الطائفية والانفصالية بهدف اضعاف الدول الوطنية وتفتيت تشكيلاتها الاجتماعية والهيمنة على ثرواتها الوطنية، وأخيراً ممارستها للتدخلات العسكرية والحصارات الاقتصادية ضد الدول الوطنية (المتمردة)، من أجل فرض علاقات معها على قاعدة التبعية والتهميش، واقامة التحالفات العسكرية مع هذه الدول بما يضمن لها قواعد عسكرية وسوقاً للإنتاج الحربي، الأمريكي بشكل خاص، وأخيراً مساندة اليمين المتطرف في النزاعات الاجتماعية.
الرأسمالية الإحتكارية
وتتميز دول النسق الثاني من التشكيلة الرأسمالية العالمية، بقوة احتكاراتها الوطنية وتحالفاتها الدولية، ولكنها لم تصل الى المرحلة الكوزموبوليتية لأسباب تاريخية يشترطها توافق طبقات التشكيلة الاجتماعية الوطنية. وفي هذا الإطار نشير الى ان دول النزعة القومية ترتكز على منظومة سياسية تتسم بسيادة التعارضات الطبقية في تشكيلتها الاجتماعية واعتمادها الشرعية الديمقراطية الانتخابية اساسا لحل تناقضاتها الاجتماعية، وبسيادة الروح التضامنية بين طبقات تشكيلتها الاجتماعية، اعتمادا على نزعة التعارض والتضامن الاجتماعي، وبمناهضة النزعات الكوزموبوليتية التي تحملها الرأسمالية الامريكية والتركيز على النزعتين الوطنية والقومية، وباقامة اشكال اتحادية اقتصادية ـ سياسية بين دولها لغرض صيانة وتطور نهوجها الاقتصادية والسياسية على الساحة الدولية.
التناقضات في التشكيلة الرأسمالية
يمكن تقسيم التناقضات في التشكيلة الرأسمالية الى تناقضات أساسية وأخرى ثانوية. وتعد التناقضات بين العمل ورأس المال من التناقضات الأساسية، وتتجلى بالنزاعات الطبقية حول خيار التطور الاجتماعي وحول مستقبل البلاد السياسي وتحالفاتها الدولية، فيما تمثل التناقضات الثانوية التعارض بين الدول الرأسمالية الكبرى حول السيطرة الفعلية على موارد وأسواق الدول الوطنية، وتعميم قوانين التبعية والتهميش عليها، والخلاف على تصدير رأس المال واستغلال العمل الرخيص في الدول الوطنية، والخلاف بين قوى اليمين المتطرف و العولمة الامريكية الكوزموبوليتية، وأخيراً النزعة الديمقراطية ومحاولة تحجيم تطورها في الدول الوطنية.
وتكتسب التناقضات الدولية المشار اليها اهميتها من انتقال الرأسمالية الاحتكارية الى مرحلتها المعولمة التي تعني الهيمنة الدولية الشاملة وما تجره من تعميم قوانين التبعية والتهميش، والعمل على تنمية الروح العسكرية بين الدول وما تجره تلك الروح من نزاعات عسكرية دولية.
كما يكتسب الكفاح الوطني المناهض لوحدانية التطور الرأسمالي عناوين وطنية ـ دولية عامة بين طوابق الرأسمالية المعولمة وتشكيلاتها الاجتماعية، تتلخص في سبل ادارة النزاعات الوطنية بين الدول انطلاقا من حدة المنافسة بين الرأسماليات الوطنية وما تحمله من صراعات جديدة. كما تقود التناقضات بين اطراف التشكيلة الاجتماعية الدولية الى المنافسة الحادة، وما تحمله تلك المنافسة من مخاطر فرض العقوبات الاقتصادية والنزاعات بين الدول الكبرى بأشكال عسكرية، واللجوء الى فرض نهج العقوبات الاقتصادية والتدخلات العسكرية و تشجيع الحروب الاهلية في الدول الوطنية.