مع بداية القرن التاسع عشر ونتيجة للثورة الصناعية في أوروبا وبداية التحول الى النمط الإنتاجي الرأسمالي تشكلت الطبقة البرجوازية كمحتكر لملكية وسائل الإنتاج تقابلها اغلبية مضطهدة من العمال والمهمشين والعاطلين عن العمل الذين لا يملكون الا قيودهم، ورافقها انتعاش الوعي الطبقي وتصاعد النضالات السياسية والمطلبية في ظل استقطاب طبقي - اجتماعي حاد بين اقلية تملك وأكثرية مضطهدة تحت الاستغلال يتنامى وعيها الطبقي، وتصاعد النضالات الطبقية السياسية والمطلبية.
وشمل الصراع أيضا مجالات فكرية في ثلاثة اتجاهات: الأول تشويه وتبشيع مفهوم الاشتراكية وتصويرها كأنها مجرد تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، والثاني إشاعة منطلقات دينية وطائفية وأخلاقية، فالفرد جنته في السماء وان الانسان بطبيعته شرير واناني، والثالث هو الدعاية للنيوليبرالية في سياق اقتصاد متوحش معولم.
اما المعسكر الشعبي الواسع فيضم جيشا واسعا من الطبقات والفئات المسحوقة التي يختلف تكوينها من بلد لأخر حسب الواقع الاقتصادي الاجتماعي والتاريخي. فمثلا اليوم في العراق يضم هذا المعسكر جيشا من العمال والفلاحين والعاطلين عن العمل والارامل والمطلقات والمهمشين والتي عكست الانتفاضة التشرينية أحد اشكال تصديهم لهذا الواقع الاستغلالي.
وقد وفرت الاشتراكية تاريخيا حلما وهدفا للنضالات الشعبية في دعوتها لإلغاء النظام الرأسمالي الليبرالي المشوه وإقامة مجتمع بديل تتوزع فيه الثورة بشكل عادل وتسوده المساواة والتأخي المجتمعي والسلام. وفي خضم ذلك تقلصت مساحات الفكر المثالي الذي يعتمد الانسنة والنقد الأخلاقي والسرديات الخرافية واللاعقلانية. وقد ازدادت شعبية الرأي الذي ينظر الى النضال من اجل حل التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية كجزء مرتبط عضويا بصيرورة الانتقال الى الاشتراكية التي تؤدي الى إنهاء الرأسمالية كتشكيلة اجتماعية اقتصادية في سياق تطور تاريخي ارتقائي طويل الأمد يختلف مسارها نوعيا من بلد لأخر وتغتني خلالها المفاهيم النظرية والتطبيقية.
ويشهد العراق اليوم انقساما طبقيا حادا حيث مثلت الطغمة الحاكمة تحالفا من برجوازيات ناشئة كمبرادورية وبيروقراطية وطفيلية تدير مشاريع سرقة المال العام وغسل الأموال وإعاقة تطور الاقتصاد الوطني خاصة في مجال الصناعة والزراعة وإدارة الثروة المالية ومنع نشوء برجوازية وطنية عراقية نشطة قادرة على تطوير الاقتصاد الرأسمالي في العراق وطنيا على غرار ما قامت به البرجوازية في أوروبا التي لعبت دورا تقدميا في انهاء النظام الاقطاعي.
وما يعيق اعداد برامج دقيقة تستجيب لمهمات أنهاء المرحلة الحالية والتي كان يطلق عليها في الادبيات الماركسية في القرن الماضي "مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية" هو الضبابية في توصيف البنية الطبقية والسمات الاجتماعية الاقتصادية للمجتمع العراقي الحالي وقلة الدراسات المتوفرة للنمط الإنتاجي السائد والبنية التحتية واشكال علاقات الإنتاج و البنية الفوقية من نظام حكم وسياسة وأفكار ومذاهب وتشريعات وبالاعتماد على الفكر المادي لتفسير التاريخ والمجتمع. ولذا نجد ان معظم ما كتب يعتمد بالأساس على كتاب حنا بطاطو المؤرخ الفلسطيني الشهير والمتخصص في قضايا الشرق العربي ويعتبر مؤلفه "الطبقات الاجتماعية القديمة والحركات الثورية الجديدة في العراق" من اهم المصادر خاصة واهن كرس جزءا واسعا فيه حول الحزب الشيوعي العراقي. وقد شخص الفقيد عالم الاجتماع العراقي فالح عبد الجبار في تقديمه لكتاب "المجتمع العراقي: حفريات سوسيولوجية في الاثنيات والطوائف والطبقات"، الذي نشر في عام 2006، التعقيد في وجود مقاربتين رئيسيتين لفهم الواقع العراقي، واحدة تعتمد التحليل الماركسي في فهم الظواهر الاجتماعية والثانية تنظر اليه من خلال موشور العائلة والقبلية والطوائف الدينية، والذي يحظى بشعبية واسعة حيث هناك حالة إساءة فهم واختزال سياسي بان العراق بلد مكونات وطوائف متناحرة. ومن الجدير بالذكر أيضا ان الدورة الحزبية المركزية التي تنظمها لجنة العمل الفكري المركزية للحزب الشيوعي العراقي خصصت احدى فعالياتها للتركيبة الاجتماعية الاقتصادية، وكان احد منشورات "الثقافة الجديدة" في نيسان 2021 حول البنية الاجتماعية الطبقية في العراق وتحولاتها منذ 2003. ولابد من الإشارة ايضا الى كتب ومقالات بحثية واكاديمية لعدد من الباحثين واخص بالذكر الرفيقين صالح ياسر ولطفي حاتم.
ولكن على الصعيد النظري لم تأخذ موضوعة الاشتراكية والشيوعية حيزا مهما لدى ماركس وانجلز، بل وان معظم ما نشر من دراسات ومؤلفات حول النظام الاشتراكي بجوانبه النظرية والتطبيقية كان من قبل مراكز الأبحاث والعلماء في البلدان الاشتراكية السابقة التي انهارت في تسعينيات القرن الماضي والتي نتيجتها فقدان مصداقيتها بسبب فشل تجربة النموذج السوفيتي، ولم تحظ بالدراسة والتقييم المطلوب، خاصة من قبل التجمعات القومية التي بعد فشل نموذج الحكم العسكري الانقلابي والشعارات القومية المتطرفة وجدت في الفكر الماركسي والاشتراكي ملاذا فكريا وتبنته كردة فعل اكثر من ان يكون على أساس قناعة ودراسة وتمحيص، والتي انتقلت بعد انهيار النموذج الاشتراكي القائم الى تبني الليبرالية، والمتوحشة منها بشكل خاص، والى درجة اقل شمل ذلك التحول بعض أوساط اليسار أيضا، وهناك قلة اليوم ممن يتبنون المشروع الاشتراكي مقارنة بنموذج دولة الرفاه الاجتماعي الموجود في أوروبا، حيث يتواجد الملايين من اللاجئين العراقيين والعرب والافارقة.
ويواجه النضال على الجبهة الفكرية تحديا كبيرا في سياق تحقيق الأهداف التي رسمها برنامج الحزب الذي اقره المؤتمر الحادي عشر ارتباطا بشعار التغيير الشامل الذي يتعامل مع المشكلات الأساسية التي تواجه عودة العراق الى المسار الطبيعي الارتقائي في التطور الاجتماعي الاقتصادي. فالمرحلة الانتقالية معقدة وصعبة و تحتاج الى قدرات تنظيمية و فكرية فادرة على التكيف مع التعقيدات والمتغيرات، ومن أهمها القدرة على رفع الوعي المجتمعي لاستنهاض همم الملايين من الناس لدعم مشروع التغيير الشامل في مواجه الاعلام التي تموله الاوليغاركية وتدعمه أجهزتها القمعية واذرعها المسلحة.
من هنا يصبح تحقبق الحكم المدني الديمقراطي الحقيقي في العراق هو الضمانة لتواصل صيرورة نضالات الشعب العراقي من اجل انجاز مهمات المرحلة الانتقالية باعتماد برامج تستلهم خصوصيات الواقع العراقي مع الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى في العالم ونضالاتها وعكسها في الشعارات والأنشطة الجماهيرية بما يتلاءم والواقع العراقي.
إن الحلم الذي كان يراود الشعوب في القرن التاسع عشر بحلول فجر اشتراكي أصبح، اليوم، واقعيا بصورة أكبر. فالرأسمالية المتوحشة سوف لن تجلب الا الحروب والازمات السياسية والاقتصادية، التي يواجهها العراق اليوم كشعب ووطن. وسيبقى الخيار الإنساني الوحيد أمام الشعوب هو الأفق الاشتراكي.