شعر ماركس وإنجلز برياح الثورة القادمة خلال عامي 1846 و1847، ولم يكن في نيتهما أن يؤخذا على حين غفلة. أطلق الاثنان لجنة مراسلات شيوعية، مستفيدين من تطور تكنولوجيا البريد في تلك الفترة - تسليم البريد ليلا - لإرسال مئات الرسائل بهدف كسب المؤيدين والأنصار النشطاء، وكذلك لمهاجمة خصومهما. كما انضما إلى منظمة سياسية دولية تسمى الرابطة الشيوعية، أو عصبة الشيوعيين، لتطبيق أفكارهما على أرض الواقع.
يكتب إنجلز في مؤلفه “حول تاريخ الرابطة الشيوعية” عام 1885:
«لم نكن، بأي حال من الأحوال، من أصحاب الرأي القائل بأن النتائج العلمية الجديدة يجب أن توضع في مجلدات ضخمة، ليطلع عليها العالم “المتعلم” حصريا. بل على العكس تماما ... بمجرد أن وضحت الأمور في أذهاننا، شرعنا في العمل».
تمثل هذا «العمل» في الفوز بجلسة استماع لآرائهما من قبل مجموعة من النشطاء الثوريين المنتشرين في العديد من البلدان. الكثيرون منهم يمتلك خبرة عقد أو أكثر في التنظيم السياسي، بما في ذلك تنظيم الإضرابات والعمل في النقابات، والمشاركة في حركات تمرد فاشلة وعضوية في جمعيات السرية. وبما أن ماركس وإنجلز كانا من الوافدين الجدد إلى المشهد العملي، فإن تأثيرهما لم يكن بالشيء الذي يذكر. يكتب إنجلز عن عودته إلى لندن عام 1843:
«لقد كانوا أول البروليتاريين الثوريين الذين رأيتهم، وبرغم التباعد في وجهات نظرنا من حيث التفاصيل في ذلك الوقت - لأنني ما زلت أحمل، الى جانب موقفي المضاد لشيوعية المساواة الضيقة الأفق، جرعة لا بأس بها من الغطرسة الفلسفية الضيقة الأفق. - لن أنسى أبدا الانطباع العميق الذي تركه هؤلاء الرجال الحقيقيون، وأيقنت انه لا يزال يتعين عليّ أن أصبح رجلاً في ذلك الوقت».
كانت خطتهما واضحة ومباشرة. فكما رأينا، اعتقد ماركس وإنجلز أن الرأسمالية كانت تخلق بسرعة بروليتاريا حضرية ستدرك مصالحها الخاصة ضد مصالح رؤسائها. ولا ينبغي للثوريين أن يقصروا هذه العملية بإثارة المؤامرات السرية. بدلا من ذلك، يجب عليهم المشاركة في النضالات العملية لجماهير الطبقة العاملة.
لتحقيق هذه الغاية، شرعا في كسب الأتباع في مختلف المنظمات، وأعلنا عن خطة لعقد اجتماع جماهيري في لندن أطلقا عليه أسم “مهرجان الأمم”، الذي سيجمع مندوبين من الطبقة العاملة من جميع أنحاء أوروبا من أجل رسم المسار نحو الثورة.
ثورة في الهواء
في ذلك الوقت، كان فهمهما لطبيعة هذا الحريق الهائل القادم أقرب الى اليقين.
أولاً، ستكتسح الثورة التي تقودها البرجوازية بقايا الأرستقراطية، كما حدث في فرنسا عام 1789. خلال هذه المرحلة، يجب على الطبقة العاملة أن تتحالف مع كل فئات المجتمع، بغض النظر عن الطبقة، التي تؤمن بالديمقراطية الحقيقية. وبفعل تطور الرأسمالية السريع، سيتم استبدال هذه المرحلة الأولى من الثورة، ربما على الفور، بانتفاضة الطبقة العاملة. لخص إنجلز تحليلهما في مقال بعنوان “أحداث 1847” كتب فيه:
«الكل يعرف، إننا لسنا أصدقاء للبرجوازية. لكن هذه المرة، سنطري على البرجوازيين انتصارهم ... إنهم قصيرو النظر، لدرجة أنهم يتخيلون أنه من خلال انتصارهم سوف يتخذ العالم شكله النهائي. ولكن، ليس هناك ما هو أوضح من أنهم، في كل مكان، يمهدون الطريق لنا، للديمقراطيين والشيوعيين. سيتمتعون ببضع سنوات بفوزهم، ثم تتم الإطاحة بهم على الفور».
لقد أشرت سابقا إلى ميل ماركس وإنجلز إلى الخلط بين عموميات مقولاتهما الديالكتيكية حول توازن القوى الملموس، لذلك سأشير هنا فقط إلى أن إنجلز يصر على هذا الخطأ. ففي نهاية المطاف، مالت كفة التوازن لصالح البرجوازية. ولكن، على الأقل يمكن القول بأن وجهة النظر هذه قد ركزت طاقتهم على الحاجة إلى الاستعداد عمليا للاضطرابات القادمة، مهما كانت طبيعتها.
ضمن هذا الاستعداد، ركز ماركس وانجلز اهتمامهما على الشارتيين الإنجليز وكذلك على منظمة سرية للثوار الألمان تسمى رابطة العدل.
التجارة الحرة والطبقة العاملة الإنجليزية
كان الشارتيون، بالفعل، ظاهرة جماهيرية في أوساط الطبقة العاملة البريطانية. اشتق اسمهم من ميثاق ستة إصلاحات طالبوا البرلمان بها، تتمحور حول حق الاقتراع العام للذكور. في عام 1842، جمعت الحركة حوالي 3.5 مليون توقيع (تخيلوا الوقت والجهد إذ لم يكن هناك فيسبوك!)، لكن أحزاب الطبقة الحاكمة رفضت ذلك بشدة، مما سمح لـ 15 في المائة فقط من الرجال البالغين بالتصويت في الانتخابات البرلمانية.
بحلول عام 1846 كان إنجلز قد أقام علاقة وثيقة مع جوليان هارني، المحرر الراديكالي للصحيفة الشارتية “نجمة الشمال” التي كان إنجلز يكتب لها بانتظام. كان ماركس وإنجلز متحمسين، بشكل لا يصدق، للشارتيين، معتقدين أنهم إذا ما فازوا بمطالبهم، فإن ذلك سيفتح الباب للثورة في إنكلترا، وستنتشر الأفكار الشيوعية.
كانت أحدى المسائل الأيديولوجية الرئيسية التي واجهت الشارتيين هي مسألة التجارة الحرة. في ذلك الوقت، قدم دعاة التجارة الحرة أنفسهم باعتبارهم أصدقاء للطبقة العاملة، ووعدوا بخفض أسعار المواد الغذائية والمزيد من الوظائف.
كتب ماركس في كتيبه (حول مسألة التجارة الحرة) إنه «يعلم الجميع أن الصراع بين الليبراليين والديمقراطيين في إنكلترا يأخذ اسم الصراع بين التجار الأحرار والشارتيين».
هنا، الليبراليون والتجار الأحرار هم البرجوازية، بينما الديموقراطيون والشارتيون هم البروليتاريا. ومن أجل تطهير أي نفوذ سياسي لأرباب العمل على العمال، يوضح ماركس لماذا لا يمكن للحجج الاقتصادية للتجار الأحرار، الذين يعدون بعمالة أكبر، إلا أن تعني المزيد من الاستغلال للطبقة العاملة. ان التجارة الحرة زادت من الثروة الوطنية لإنكلترا، لكن:
«جميع العمال حصلوا على أقل مردود من عملهم، وزاد عبء العمل، على الأقل، لبعض العمال. في عام 1829، كان هناك في مانشستر 1088 عاملاً لغزل القطن و36 مصنعا. في عام 1841، كان هناك 448 عاملا، ينتجون 55353 لفة قطن وهو أكثر بكثير مما كان ينتجه 1088عاملا في عام 1829. إذا زاد العمل اليدوي بنفس نسبة القوة الإنتاجية، كان يجب أن يرتفع عدد العمال إلى 1848عاملا؛ وبالتالي، أدى تحسين الآلات إلى حرمان 1400 عامل من العمل».
ثم يصل ماركس إلى نتيجة تبدو غريبة:
«بشكل عام، فإن نظام الحمائية الموجود حاليا هو نظام محافظ، بينما يعمل نظام التجارة الحرة بشكل مدمر. إنه يحطم القوميات القديمة، ويصل بالعداء بين البروليتاريا والبرجوازية إلى أقصى حد. باختصار، إن نظام التجارة الحرة يعجّل بقيام الثورة الاجتماعية. بهذا المعنى الثوري فقط، أيها السادة، أنا أؤيد التجارة الحرة».
ليس ثمة اختلاف أو فرق، من وجهة نظر العمال، بين الحمائية والتجارة الحرة، لكن ماركس يحاول، هنا، الإشارة إلى أنه لا يمكن لأي من هاتين السياستين أن تحل مشكلة الاستغلال بشكل دائم. هذه نقطة صحيحة بما فيه الكفاية. مع ذلك، ربما سيصل البعض الى أن هذه النتيجة تعاني أيضا من النزعة المركزية الأوربية، وهو ما سأتناوله لاحقا.