تدرج ابن رشد في الوظائف الرسمية وولي القضاء في إشبيلية، وفي قرطبة، وكان في الوقت ذاته يضع تآليف مختلفة.

لكن هذه المنزلة التي احتلها ابن رشد أكثرت من حسّاده لدى الأمير، فسعوا إلى الوشاية به، وقالوا إن ابن رشد يجحد القرآن ويعرّض بالخلافة ويبسط الفلسفة وعلوم المنطق بدلاً من الدين الإسلامي، وقالوا إن ابن رشد نعت الخليفة بملك البربر. كما اتهموه بأنه أنكر هلاك قوم عاد الواردة في القرآن وغير ذلك من الوشايات. فانطلت على الخليفة يعقوب المنصور الموحدي، وأمر بعقد مجلس عام لمحاكمته على آرائه وحكم عليه بالإقامة الجبرية في مدينة أليسانة على مقربة من قرطبة. كما تقرر إحراق كل كتبه وحظر عليه الاشتغال بالفلسفة.

لكن هذه الحالة التي أصابت ابن رشد في عام 1195 لم تدم طويلاً، ولم يلبث الخليفة أن رضي عنه، فعاد إلى قرطبة حيث توفي عام 1198، وبموته أنطفأت آخر شعلة من الفلسفة العربية التي أضاءت العالم الغربي عدة قرون.

لم ينقطع ابن رشد عن الكتابة والتأليف طيلة حياته سوى ليلتين: ليلة وفاة أبيه وليلة عرسه. وتربو مؤلفاته على العشرات، وضع فيها تصنيفات فلسفية وعلمية وقضائية وفقهية وأدبية ولغوية.

لكن قسماً كبيراً من مؤلفات ابن رشد فقد نصها العربي، ولم يبق إلا الترجمات العبرية واللاتينية. أما مؤلفاته المخطوطة الباقية، فهي موزعة في مكتبات العالم، فهناك قسم منها في مكتبة الاسكوريال في إسبانيا، وقسم في مكتبات باريس ولندن.

وقد أورد رينان في القسم الأخير من كتابه «ابن رشد والرشدية» ما كتبه مؤرخو زمان ابن رشد عنه، ونقلها من مختلف المخطوطات في مكتبات أوروبا. فما قاله عنه ابن عيار: إن الدراية في ابن رشد كانت أغلب عليه من الرواية، ولم ينشأ بالأندلس مثله كمّاً وعلماً وفضلاً. وقد عني بالعلم من صغره إلى كبره حتى حكى عنه أنه لم يدع النظر ولا القراءة عنه إلا ليلة وفاة أبيه وليلة عرسه. وقد صنف وقيد وألف وهذّب واختصر نحو عشرة آلاف ورقة. وكان يفزع إلى فتواه في الطب كما يفزع إلى فتواه في الفقه. وقد حكى عنه أبو القاسم ابن الطيلسان أنه كان يحفظ شعر الطائي والمتنبي ويكثر التمثل بهما في مجلسه.

وقال ابن أبي أصيبعة في ترجمة مطولة عن حياة ابن رشد في كتابه «طبقات الأطباء» أنه كان أوحد في مسائل الفقه والخلاف، أي لا مثيل له، وأنه كان ذكياً رث البزة قوي النفس. وأنه متى حضر مجلس المنصور أو تكلّم معه أو بحث معه في شيء من العلوم، كان ابن رشد يخاطبه: اسمع يا أخي. وكان المنصور يستاء من ذلك في سره.

وقد نقل آرنست رينان عن الأنصاري المنشور أو الرسالة التي نشرها الخليفة لتحذير الناس من مبادئ ابن رشد وفلسفته، وقد هاجم فيها الفلاسفة واتهمهم اتهاماً صريحاً بأنهم يوافقون الأمة في ظاهرهم وزيهم ولسانهم ويخالفونها بباطنهم وقال: فلما وقفنا منهم على ما هو قذى في جفن الدين ونكتة سوداء في صفحة النور المبين، نبذناهم نبذ النواة وأقصيناهم كما يقصى السفهاء من النواة.

ومن ذلك ما حدّث به الشيخ أبو الحسن الرعيني عن شيخه أبي محمد الكبير عن محاكمة ابن رشد واتهامه بالإلحاد، فقد جمع والي قرطبة طلبتها والعلماء وفيهم ابن رشد، وهو القاضي في قرطبة يومئذ ليسألهم عن ذلك، ولما انصرف طلبة العلم تكلم ابن رشد وابن مندور في شأن الريح التي تهب من جهة الطبيعة. فقال أبو محمد الكبير إن صح أمر هذه الريح، فهي ثانية الريح التي أهلك الله تعالى بها قوم عاد، إذ لم تعلم ريح بعد هلاكها. فانبرى ابن رشد ولم يتمالك نفسه وقال: والله وجود قوم عاد ما كان حقاً فكيف سبب هلاكهم، فاعتبر كلامه فلتة شاع خبرها في المشرق والأندلس، واعتبروا كلامه زلة لا تصدر إلا عن صريح الكفر واتهموه بتكذيب ما جاء في القرآن الذي «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه».

والجدير بالذكر أن الإمام الغزالي الذي كان يعد أحد الفلاسفة وارتد عنها، وأخذ يهاجمها هجوماً عنيفاً، وألف كتابه المشهور «تهافت الفلاسفة» أي انهيار حججهم، ومع كل ذلك قال عنه أحد الفقهاء الأندلسيين أن الغزالي لم يخلع عباءة الفلسفة عن كتفيه.

وبيّن محمد عابد الجابري في كتابه عن ابن رشد، السيرة الذاتية للفيلسوف وبين التعريف بفكره من خلال أهم كتبه في الفقه وأصول العقيدة والفلسفة والعلوم والطب والسياسة، ولعل أهم فكرة كان يؤمن بها ابن رشد هي وحدة الحقيقة وتكامل المعرفة، ويقول الجابري: إن ابن رشد لم يكن يفصل بين تخصيص وتخصيص إلا على صعيد النهج، أما على صعيد المضمون فكان يتحرك كعالم متعدد التخصصات، يستحضر الطب في الفقه والفقه في الطب والقرآن والحديث في الفلسفة، والفلسفة في العلم، والعلم في كل ذلك.

ــــــــــــــــــــــــــــ

“قاسيون” – 21 شباط 2022

عرض مقالات: