يعتبر غرامشي أحد أعمدة الفكر الماركسي، وقد حظيت اطروحاته، ولا تزال، ليس باهتمام الاشتراكيين والثوريين في العالم فحسب، بل وأيضا باهتمام مدارس فكرية من خارج الماركسية. ورغم الجدل المحتدم حول الرجل بين من رآه مكمّلاً أو ربما مجدداً للتراث اللينيني وبين من رأى فيه ماركسيا “متعقلاً”، وربما جعله في تناقض ما مع الأفكار والقيم التي سادت في عالم الكومنترن، فقد اتفق الجميع على اعتبار غرامشي، منظّراً وقائداً، أكسب اليسار الأيطالي، ما عُرف عنه من نفوذ متميز في تاريخ الحركة الشيوعية، ومفكراً حافظ على استقلاليته من هراوات الإستبداد الستاليني، وصاحب استراتيجية ماركسية، اعتمدت على سلمية الانتقال الى الاشتراكية، عبر نضال فكري وثقافي طويل، استراتيجية تطور فيها البروليتاريا ثقافة خاصة بها، وتعبأ حولها الطبقات المضطهِدة، وتتولى فيها القيادة الفكرية والأخلاقية، وتقيم خلالها تحالفات مع قوى متنوعة، وتشكل بها إتحاداً للقوى الاجتماعية (أو ما سمّي بالكتلة التاريخية)، وبالتالي تتمكن من تحطيم الاستغلال الرأسمالي وهيمنته الفكرية معاً.

بين استراتيجيتين

ولعل أبرز ما تضمنته تلك الاستراتيجية كان تبني “طبعة” للماركسية، ملائمة لخصوصية كل بلد، حيث كرّس الرجل كل كتاباته (دفاتر السجن) لرسم برامج تتناسب والتطور الرأسمالي في أوربا المتقدمة، والمختلفة جوهرياً عن التطور في روسيا القيصرية. لكن مفهومه للدور القيادي للبروليتاريا، بقي متناغماً مع المفهوم اللينيني له، لاسيما وإن لينين نفسه دعى في تقريره الى المؤتمر الرابع للكومنترن عام 1921، الى وجود استراتيجية ثورية مختلفة للدول الرأسمالية المتقدمة.

ففي الوقت الذي تبنت فيه استراتيجية لينين، التمرد على السلطة البرجوازية القمعية والمستبدة القائمة في مجتمعات رأسمالية متخلفة، إذا ما رفضت الطبقات المستغَلة هذا الإستبداد وأبدت القدرة على مواجهته، توصلت استراتيجية غرامشي الى أن الهيمنة الرأسمالية في المجتمعات المتقدمة، لا تقتصر على العنف والإكراه السياسي والاقتصادي، والذي تنفذه الدولة البرجوازية (المجتمع السياسي)، بل وأيضا القهر الأيديولوجي، الذي تنفذه مجموعة مؤسسات المجتمع المدني، من أجل تغييب وعي المستغَلين وتزييفه، وصولاً الى صيانة “السلم” الأهلي بين الطبقات.

الهيمنة الفكرية

وإذا كان المجتمع المدني، الذي هو مجموعة من المنظمات الواقعة خارج سلطة الدولة، كالنقابات والأحزاب والصحافة والمدارس والمؤسسات الدينية، ومجموعة العلاقات المنظمة للحياة الاجتماعية، جزءا من البناء التحتي في اللينينية، فهو مكون من مكونات البناء الفوقي لدى غرامشي، والذي ينبغي العمل من خلاله لتحقيق الثورة.

لقد رأى غرامشي أن تزامن الهيمنة الفكرية للمستغِلين مع غياب بديل قادر على تنظيم وقيادة الجماهير، سيخلق اوضاعاً غير ثورية، تدفع ببعض الطبقات المضطهَدة للتنازل والمشاركة في النظام الرأسمالي المهيمن، مما يعيق تحقيق أي تحول فكري في المجتمع، ويفضح العلاقة الجدلية التكافلية بين الكيانين غير المختلفين وغير المستقلين للمجتمع المدني، بحيث تبقى قدرة الدولة على الفعل معتمدة دائماً على توازن القوى الطبقية والاجتماعية، وعلى دور الجهات الفاعلة داخل المجتمع المدني. فالدولة في المجتمع الرأسمالي المتقدم، تضمن استمرار هيمنة الطبقة البرجوازية من خلال طرق معقدة في الحكم، خالية من القهر المباشر، ومحققة لرضا الناس.

الكفاح الثوري

ولهذا أعطى غرامشي مكانة مهمة للكفاح ضد الهيمنة الفكرية للرأسمالية على المجتمع، واعتبر ذلك نقطة انطلاق لقيادة الطبقات المضطهدة لإنتزاع هيمنة المستغِلين، عبر توسيع الصلات مع الجماهير، وخلق بروليتاريا واعية وتحريض الطبقات الأخرى التابعة، على الفعل الثوري، بحيث يكون بمقدور البروليتاريا، التي تهيمن فكرياً وتقيم تسويات وتحالفات مع المستغَلين الأخرين، أن تسقط القيم البرجوازية وتجذب الطبقات المضطهدة والمثقفين إلى قضيتها، وصولاً الى تحقيق الهيمنة السياسية.

ولم يخالج غرامشي الشك في ان الصراع لا يقتصر على المجتمع المدني، فإنتزاع الهيمنة فيه لا ينهي الصراع دون أن يُحسم الصراع السياسي بالهيمنة على الدولة، وهو مافعله البلاشفة بشكل مختلف وبجوهر متطابق حيث أشار لينين الى اهمية التحالف الطبقي بين الطبقات التابعة، وانخراطها معا في نضال ثوري فعّال، لاسيما حين لا تكون البروليتاريا الطبقة الأكبر عدداً. وبهذا الصدد يقول غرامشي “تصبح الطبقة مهيمنة بطريقتين، أي أنها قائدة ومسيطرة. فهي تقود الطبقات المتحالفة، كما أنها تسيطر على الطبقات المعارضة. ولذلك، يمكن للطبقة (بل ويجب) أن تقود حتى قبل توليها السلطة، وعندما تتولى السلطة تصبح مهيمنة، وفي نفس الوقت تواصل القيادة”(1) 

دور المثقفين

ويلعب المثقفون حسب استراتيجية غرامشي، لا في عموم اللفظ، بل من يمتلك منهم القدرة على التأثير في الجماهير، وهو ما أطلق عليه المثقف العضوي، دوراً مهماً في الكفاح ضد الهيمنة الفكرية، من خلال تبني هموم المستغَلين وانتاج منظومة من القيم الانسانية الجديدة (الاشتراكية) وفضح جوهر الاستغلال الرأسمالي، المتمثل في تلازم القهر السلطوي مع التضليل والخداع الفكري ونشر الماضوية وتكريس الهويات الفرعية والتمويه على المصالح الطبقية للناس، وذلك بغية الارتقاء بوعي الطبقة وصياغة تصوراتها الفكرية وفرض تلك التصورات على الطبقات الأخرى في نضال بروليتاري حازم ضد المكونين (السياسي والمدني) معاً، ومن اجل بناء مؤسسات عمالية جديدة وثورية، تنشط سياسياً وفكرياً، وصولاً إلى اللحظة التي تنضج فيها التحالفات الطبقية، وتُنتزع بها الهيمنة السياسية.

دور الحزب

أكد غرامشي على المقولة اللينينية حول أهمية الحزب في تنظيم الطبقة وقيادتها لتحقيق أهدافها ومصالحها وبالأشتراطات الخاصة بحياته الداخلية واللازمة لتمكينه من إداء مهامه، ورفض الدور المتفرد للقائد، مهما كانت كارزميته ومكانته. ورأى أن يكون للحزب علاقة مميزة بالمثقفين العضويين، بحيث يمكنّهم من خلق وعي جديد وممارسة نشاط نقدي وتحقيق تحديث متواصل. وأشار الى أهمية نجاح الحزب في تكوين وتطوير فئة مثقفيه العضويين في الحقل السياسي والفلسفي، لا على أساس عدد هؤلاء ومستوى نشاطهم ولكن على أساس قدرتهم على اداء الوظيفة التنظيمية والفكرية التي يتطلبها كفاح الحزب لتحقيق برامجه.

عرض مقالات: