ذات صباح من العام 1962 أعيد الرائد النهضوي فرح أنطون من جريدة “الأهالي “ في القاهرة محمولاً إلى منزله إثر إغماء أصابه بسبب الإجهاد المتواصل وشدة ضعفه ومعاناته من المرض في قلبه ومعدته، ولم يلبث بعد 50 يوماً أمضاها طريح الفراش أن رحل وهو في الـ 48 من عمره ودفن في القاهرة.

لم يشأ المفكر النهضوي الانقطاع من العمل واللجوء إلى الراحة رافضاً أوامر الأطباء وتوسلات شقيقته روزا وصهره نقولا الحداد، وكان يقول “لا أرتاح وفيّ عرق ينبض، ولا أطمح إلا لأرى هذا الوطن العزيز حراً”. وعندما توفي لم يكن يملك شيئاً، فلم يجن من الصحافة سوى التعب والشقاء، وقد عبر عن ذلك بقوله “إن صناعتنا شقية في بلادنا ولغتنا لاضطرارنا إلى مسالمة الفساد والإغضاء عن أهل الأوهام والخرافات وتسمية الانحطاط ورؤية الجهل سائداً والسكوت عنه، والحق ضائعاً والابتعاد منه”.

سافر فرح أنطون 1874-1922 من طرابلس لبنان إلى الإسكندرية في 1897 وصرف بقية حياته بين مصر ونيويورك رئيساً لتحرير مجلات عربية عدة. أصدر في الإسكندرية مجلة “ الجامعة “ في أيار مايو 1899 ثم هاجر إلى نيويورك العام 1906 واستأنف إصدارها هناك، لكنه لم يلبث أن عاد إلى القاهرة وأعاد إصدارها من جديد، إلا أنه لم يصدر منها سوى عددين فقط. توقف عن الكتابة خلال الحرب العالمية الأولى وعمل في المسرح ثم دخل في حزب الوفد بعد ثورة 1919 في مصر وعاد إلى العمل في الصحافة من جديد. 

طليعة النهضة

 أثار فرح أنطون بين معاصريه من العرب والمستشرقين تأويلات متعددة ومتناقضة، ففي رأي سلامة موسى أنطون هو الفاتح لدرس النهضة الأوروبية الحديثة وناشر الأفكار الديمقراطية الحرة، وهو عند عباس محمود العقاد” طليعة مبكرة من طلائع النهضة “، أما مارون عبود فقد اعتبره “رائد النهضة الفكرية الحرة في الشرق العربي”، وأول من أذاع فلسفة تولستوي في العالم العربي وأول من نشر تعاليم روسو وترجم مكسيم غوركي، وأول من اكتشف تعاليم كارل ماركس وعرف العرب بأوغست كونت، وأطلعهم على شرائع حمورابي وبوذا وكونفوشيوس، وقد تصدى لترجمة أخطر كتب أرنست رينان “حياة يسوع” حين كان اسم رينان في الشرق مرادفاً للكفر والإلحاد، الأمر الذي أغضب المتدينين المسيحيين والمسلمين على السواء، فاتهمه لويس شيخو بالماسونية والإلحاد، وأثارت دعوته إلى فصل السياسي عن الديني وقوله بدولة عثمانية وطنية علمانية نقاشات حادة بينه وبين الإمام محمد عبده.

أما المستشرق الروسي ز.ل. ليفين فقد رأى أنه بفضل المنورين العرب، بخاصة فرح أنطون، كون العرب تصوراً عن الاتجاهات المختلفة للفكر الفلسفي والسوسيولوجي في أوروبا، فيما اعتبر المستشرق كراتشكوتسكي أنطون “نموذجاً للفيلسوف العربي المعاصر والمفكر الحر وداعية الإصلاح الذي انشغل بتنوير الفكر لدى سكان الشرق”.

  مجتمع واحد

تجلى المبدأ المركزي الذي أطر فكر أنطون السياسي والاجتماعي في مقالاته في مجلة “الجامعة” وفي كتابه “ابن رشد” وكتبه اللاحقة “الدين والعلم والمال” و”الوحش الوحش الوحش” و “أورشليم الجديدة” وقوام هذا الفكر وضع أسس دولة علمانية في الشرق يشترك فيها المسلمون والمسيحيون على قدم المساواة التامة في تشكيل مجتمع موحد يجد فيه كل مكانه الاجتماعي، قادر على رد غائلة

الاستعمار الغربي.

علمانية فرح أنطون تختلف عن العلموية الملحدة، فبينما تصدى للظرف التاريخي بالحدة ذاتها التي تصدى بها معاصره النهضوي شبلي الشميل، لم يشأ أنطون الاصطدام بالدين ومسلماته الإيمانية الميتافيزيقية، بل أعلن تمسكه بهذه المسلمات محدداً هدفه بتنقية العقائد من الخزعبلات والأوهام، وانتزاعها من أيدي رجال دين مستبدين يدعون احتكار الحقيقة لكنهم لا يبغون سوى أهوائهم ومصالحهم بالسيطرة على قلوب الناس وضمائرهم.

لا يجد أنطون تناقضاً بين العلم والدين، فإذا اختلفا في الطرق يتفقان في الغرض لأن غرضهما واحد وهو تحسين حال الإنسانية وترقية شؤون البشر، إلا أنه لكل من العلم والإيمان قواعد عمله وطرق إثبات حقائقه، الأمر الذي يستدعي الفصل بين السلطتين الدينية والزمنية، فغرض الدين الاشتراع للآخرة وغرض الحكومات الاشتراع لهذا العالم، وهذا يتطلب احترام الأديان تأكيداً للمساواة المطلقة بين أبناء الأمة بقطع النظر عن معتقداتهم ليكونوا أمة واحدة، وصوناً للوطن من النزاع والشقاق المفضيين إلى الضعف والانحطاط.

استحضار ابن رشد

من هذا المنظور كان استحضار فرح أنطون لابن رشد، فما جذبه إلى هذا الفيلسوف هو ما جذب رينان، أي تأكيده أن الحقيقة واحدة يختلف تفهمها بين الخاصة والعامة، إلا أن أنطون كان يتوخى أمراً آخر هو التأسيس لدولة علمانية، دولة حرية ومساواة تامة، لأنه كما يقول “لا مدنية ولا عدل ولا ألفة ولا حرية ولا تقدم ولا علم ولا سلامة للدول ولا عز إلا بفصل السلطة المدنية عن السلطة الدينية”.

وعلى الرغم من أن الشروط الموضوعية للأفكار الاشتراكية لم تكن قد تكونت بعد في البلدان العربية، حيث ظل ماركس غريباً عن أفكار النهضويين العرب وتطلعاتهم حتى مطلع القرن العشرين، فقد وجدت أفكار الاشتراكية الطوباوية المستمدة من فورييه أول تعبير عنها في الشرق العربي عند فرح أنطون الذي تطرق إلى الأسس السياسية والاقتصادية للفقر والظلم الاجتماعي، متجاوزاً الطرح النهضوي الإنسانوي الذي رأى إلى التفاوت الاجتماعي من منظور إنساني اقتصر على الرأفة بالفقراء والإحسان إليهم، ليقارب الماركسية في طرحه للمسألة الاجتماعية وحقوق الفقراء، واعتباره المصانع والمعامل والمزارع وقفاً للجمهور وملكاً للجميع مثل الأنهار والبحار والهواء، حتى إنه تجاوز ذلك إلى طرح مقولة “القيمة الزائدة” الماركسية في حديثه عن مصدر الثروة ودور العمال في تراكمها وحقهم في الانتفاع منها.

من هذا المنظور دعا أنطون إلى اشتراكية معقولة غير متطرفة تشكل حلاً لأزمة المجتمعات الإنسانية، إن في الشرق حيث يسود الاستبداد أو في الغرب حيث العبودية لرأس المال، وقد أعرب عن خيبته بديمقراطية الغرب لما شهده من معاناة الشعب الأميركي من الفقر والظلم بقوله، “تركنا الشعوب في الشرق خرافاً يجز صوفها ويستدر لبنها ويستبد بها حاكمها وغنيها، فوجدنا الشعب في أميركا تحت نير عبودية لأصحاب الأموال،  والنتيجة واحدة أنين الشعب تحت نيره الثقيل”.

بعد كل ذلك الجهاد المضني وبعد كل ما أنفقه من المال والوقت والتعب، رحل فرح أنطون سقيماً فقيراً كئيباً خائباً، ولعل ما قالته فيه مي زيادة خير تعبير عن معاناته، “أثر كئيب عميق كان ينطق من صوته ونظره وسكونه حتى، ومن ابتسامه حتى ومن تحمسه، وهو اقتناعه الصميم أنه لن يتدوزن ومحيطه وأن محيطه لن يتدوزن وإياه”.

لكن مآلات التاريخ أنصفته بعد أكثر من قرن على طروحه العلمانية، إذ أثبتت أن الدولة الوطنية العلمانية القائمة على الحرية والتي تساوي بين المواطنين وتفصل بين الدين والسياسة هي الدولة التي تتفق ووجهة التطور الإنساني وتحقق سعادة الأمم والمجتمعات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

“اندبندنت عربية” – 19 كانون الثاني 2022

عرض مقالات: