ثمة فارق إضافي هامّ بين نموذج الموقع ونموذج الهوية. فبناء على نموذج الموقع، لا تكون الأنساق الممأسسة للقيمة الثقافية هي العقبات الوحيدة في وجه المشاركة المتكافئة. بل بالعكس، تتعرض المشاركة المتساوية هي أيضا للعرقلة عندما يفتقر بعض الفاعلين إلى الموارد اللازمة للتفاعل المتكافئ مع الآخرين. في حالات كهذه، يشكّل سوء التوزيع عقبة أمام المشاركة المتكافئة في الحياة المجتمعية، فيصير بالتالي شكلاً من الإخضاع الموقعي ومن الظلم. وخلافا لنموذج الهوية، نموذج الموقع يفهم العدالةَ الاجتماعية على أنها تنطوي على مستويين متمايزين تحليليا: مستوى الاعتراف، المتعلق بآثار الدلالات والمعايير الممأسسة عن الموقع النسبي للفاعلين المجتمعيين؛ ومستوى التوزيع، الذي يشتمل على توزيع الموارد القابلة للتصرف على الفاعلين المجتمعيين.

وهكذا، فكل مستوى يرتبط بوجه تحليلي متمايز من وجوه النظام المجتمعي. فمستوى الاعتراف يقابل نظامَ الموقع المجتمعي، فهو يقابل بالتالي تشكيل أنساق قيمة ثقافية راسخة مجتمعيا لأصناف محددة ثقافيا من الفاعلين الاجتماعيين- أي جماعات موقع- تتمايز كل واحدة منها بنسبة من الهَيبة والسمعة والتقدير تجاه الآخرين. في المقابل، يوازي مستوى التوزيع البنية الاقتصادية للمجتمع، وبالتالي فهو حصيلة ما كونته أنظمة الملكية وأسواق العمل من أصناف اقتصادية من فاعلين أو طبقات، تتمايز بحصتها المتفاوتة من توزيع الموارد.

ثمّ إن كل مستوى يرتبط بشكل متمايز تحليليا من أشكال الظلم. فالظلم المرتبط بمستوى الاعتراف، المذكور أعلاه، هو عدم الاعتراف. في المقابل، الظلم المرتبط بالمستوى التوزيعي هو سوء التوزيع حيث البنى الاقتصادية وأنظمة الملكية أو أسواق العمل تحرم فاعلين من الموارد اللازمة للمشاركة المجتمعية الكاملة. وأخيرا، فكل مستوى يقابله شكل إخضاع متمايز تحليليا. فكما أسلفنا، مستوى الاعتراف يقابل الإخضاع الموقعي، المتجذر في أنماط ممأسسة من القيمة الثقافية؛ ومستوى التوزيع، في المقابل، يقابل الإخضاع الاقتصادي، المتجذر في سمات بنيوية للنظام الاقتصادي.

على العموم، إذن، يضع نموذجُ الموقع مشكلةَ الاعتراف في إطار مجتمعيٍّ أوسع. من هذا المنظار، تبدو المجتمعات بما هي حقول معقدة لا تشمل أشكالاً ثقافيّة من التحكم الاجتماعي فقط وإنما أشكالا من التحكم الاقتصادي. يتشابك هذان الشكلان من أشكال التحكم في كافة المجتمعات. على أنه يتعذر اختزال واحدهما بالآخر كليا في ظروف الرأسمالية. بل بالعكس، ينفصل المستوى الاقتصادي نسبيا عن المستوى الثقافي، بما هما ساحتان خاضعتان للسوق، يغلب فيهما الفعل الاستراتيجي، تتمايز عن ساحات غير خاضعة للسوق، حيث يغلب التفاعل الخاضع لمبدأ القيمة. فتكون الحصيلة انفصالا جزئيا للتوزيع الاقتصادي عن بنى الجاه. لذلك، ففي المجتمعات الرأسمالية، لا تتحكم أنساق القيمة الثقافية حصرًا بالتوزيع للموارد الاقتصادية (بالضد من النظرية الثقافوية للمجتمع) ولا تكون الفوارق الطبقية الاقتصادية مجرد انعكاس لتراتبات الموقع؛ الأحرى أن سوء التوزيع ينفصل جزئيا عن عدم الاعتراف. أما بالنسبة إلى نموذج الموقع، فلا يمكن التغلب على كل أنواع الظلم التوزيعي بواسطة الاعتراف وحده. يستوجب الأمر اعتماد سياسات إعادة توزيع.

ومهما يكن من أمر، لا يمكن فصل التوزيع والاعتراف واحدهما عن الآخر بسهولة في المجتمعات الرأسمالية. يتشابك المستويان ويتفاعلان سببيا واحدهما مع الآخر في نموذج الموقع. فالمسائل الاقتصادية مثل توزيع الدخل لها تداعيات تتعلق بالاعتراف: ذلك أن أنساق القيمة الممأسسة في أسواق العمل قد تزكي النشاطات المسماة «ذكورية» أو «بيضاء» وسواها على تلك المسماة «نسوية» أو «سوداء». وبالعكس، فمسائل الاعتراف- الأحكام القائمة على القيمة الجمالية مثلا- لها تداعيات توزيعية: ذلك أن تقليص فرص الوصول إلى الموارد الاقتصادية قد يعيق المشاركة المتساوية في الإنتاج الفني. فتكون النتيجة حلقة مفرغة من الإخضاع، فيما نظام الموقع والبنية الاقتصادية يخترق واحدهما الآخر ويدعّمه.

على خلاف نموذج الهوية، يرى أنموذج الموقع إلى عدم الاعتراف في إطار فهم أوسع للمجتمع المعاصر. من هذا المنظار، لا يمكن فهم إخضاع الموقع بمعزل عن ترتيبات اقتصادية ولا فهم الاعتراف مجرّدا عن التوزيع. بل بالعكس، فمن خلال النظر في كلا المستويين معا فقط يمكن المرء أن يقرر ما هي المشاركة المتكافئة الملحة في كل لحظة مخصوصة؛ وفقط من خلال تفكيك التشابكات المعقدة بين الموقع والطبقة الاقتصادية يمكن المرء أن يقرر ما هي أفضل وسيلة لتصحيح الظلم. هكذا يشتغل أنموذج الموقع ضد اتجاهاتٍ ترمي إلى إزاحة النضالات من أجل إعادة التوزيع. وإذ يرفض النظرة القائلة بأن عدم الاعتراف هو أذى ثقافي بلا قيود، يدرك أن إخضاع الموقع غالبا ما يكون مرتبطا بمظلمة توزيعية. وعلى خلاف النظرية الثقافوية إلى المجتمع، يتفادى أنموذج الموقع تبسيط تلك الروابط المعقدة: فهو يدرك أنه لا يمكن التغلب على جميع أنواع المظالم الاقتصادية بواسطة الاعتراف وحده، ويدعو إلى مقاربة تتقصد دمج المطالبات بالاعتراف من أجل إعادة التوزيع، ما يخفف من مشكلة الإزاحة.

إلى ذلك، يتفادى أنموذج الموقع تشييء الهويات الجمعية، وكما أسلفنا، ما يتطلب الاعتراف في هذا الصدد ليس هوية جمعية بذاتها وإنما موقع الأفراد بما هم شركاء كاملون في التفاعل الاجتماعي. ولهذا التوجّه فوائد عدة. فمن خلال التركيز على آثار المعايير الممأسسة على قدرات التفاعل، يتحاشى النموذج موضعة الثقافة واستبدال التغيير الاجتماعي بالهندسة الهوياتية. وبالمثل، فإن رفض إعطاء الأفضلية لمعالجات عدم الاعتراف يثمن الهويات الجمعية القائمة، يتحاشى أنموذج الموقع جوهرة الترتيبات الحالية وحجر التغير التاريخي. أخيرا، من خلال تثبيت المشاركة المتكافئة بما هو معيار قيمي، يخضِع نموذج الموقع مطالبات الاعتراف لمسارات المكاشفة الديموقراطية العلنية، فيتفادى بذلك المونولوجات السلطوية عن سياسات الأصالة وتثمين التفاعل العابر للثقافات بالضد من النزعة الانفصالية والتقوقع الجمعي. وبعيدا كل البعد من تشجيع الطائفيات القامعة، فإن نموذج الموقع يناضل ضدها.

على سبيل الخلاصة: إن النضالات الحالية من أجل الاعتراف غالبا ما تلبس لبوس سياسات الهوية. وإذ تهدف إلى مجابهة تصويرات ثقافية تحقيرية لجماعات تابعة، تعمل على تجريد عدم الاعتراف من حاضنته المؤسساتية وتصرم روابطه بالاقتصاد السياسي. وبالقدر الذي تنادي بهويات جمعية «أصيلة»، فهي لا تشجع على التفاعل العابر للاختلافات بقدر ما تعزز النزعة الانفصالية والاتّباعية والتزمت. فتكون النتائج تعيسة من جهتين، ففي معظم الأحيان، تزيح النضالات من أجل الاعتراف النضالات من أجل العدالة الاقتصادية وتشجع على أشكال قمعية من الممارسات الطائفية في الآن ذاته.

مهما يكن، لا يكمن الحل في رفض سياسات الاعتراف جملة وتفصيلاً. فذلك يعني الحكم على ملايين البشر أن يعانوا من مظالم خطيرة لا يمكن تصحيحها إلا من خلال اعتراف من هذا النوع أو ذلك. فالمطلوب بالأحرى اعتماد سياسة اعتراف بديلة، هي سياسة غير هوياتية قادرة على أن تعالج عدم الاعتراف دون التشجيع على الإزاحة والتشييء. وقد حاججتُ أن نموذج الموقع يوفر الأساس لذلك. فمن خلال فهم الاعتراف بما هو مسألة موقع، ومن خلال تفحص علاقته بالطبقة الاقتصادية، يمكن للمرء اتخاذ الإجراءات اللازمة للتخفيف من إزاحة النضالات من أجل إعادة التوزيع، حتى لا نقول إنه سيتمكن من أن يحلّها حلا نهائيا، فيستطيع أن يبدأ بالتخفيف من النزوع الخطير إلى تشييء الهويات الجمعية، إن لم نقل تبديدها بالكامل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* فيلسوفة وناقدة ونسوية أميركية، معروفة بنقدها لسياسات الهوية وللحركات النسوية الليبرالية المتخلية عن العدالة الاجتماعية

مجلة “بدايات” الفصلية – العدد 32 – 2021

عرض مقالات: