إن نموذج الاعتراف المحكوم بسياسات الهوية ينزع إلى تشيئ الهوية. فهي في تشديدها على الحاجة لبلورة هوية جمعية أصيلة مستقلة أيضا تمارس التأكيد الذاتي، والجَهر بها، تضغط معنويا على الأفراد لكي ينصاعوا إلى ثقافة جمعية معينة. ينجم عن ذلك تقييد التمرد والتجريب الثقافيين، هذا عندما لا يجري وصمهما بالخيانة. وينطبق الأمر نفسه على النقد الثقافي، بما فيه الجهود المبذولة لاستكشاف انقسامات بين الجماعات، مثل الانقسامات الجندرية والجنسية والطبقية. وهكذا فبدلاً عن الترحيب بالتدقيق في السلالات البطريركية في ثقافة خاضعة معينة، يتجه تيار النموذج الهوياتي إلى وصم مثل هذا النقد بأنه «غير أصيل». فإذا الأثر الإجمالي هو فرض هوية جمعية واحدة، تبسيطية على نحو كارثي، تنكر تعقيد حياة الناس، وتعدد أشكال تعريفهم لأنفسهم والتجاذبات المتبادلة بين انتماءاتهم المختلفة. والسخرية في الأمر، بالتالي، أن نموذج الهوية يخدم كواسطة لعدم الاعتراف: فتشييء الهوية الجمعية ينتهي إلى التعتيم على سياسات الهوية الثقافية، وعلى الصراعات داخل الجماعة على شرعية وسلطة تمثيلها. وهذه المقاربة، إذ تصرف النظر عن تلك الصراعات، تحجب سلطةَ الأجنحة المسيطرة وتعزز السيطرة داخل المجموعات. وهكذا يخدم النموذج الهوياتي بسهولة فائقة الأشكال القمعية من الطائفية فيروّج للامتثال، والتعصب والبطريركية.

والمفارقة هنا أن نموذج الهوية ينزع إلى إنكار مرتكزاته الهيغلية. فبعد أن يبدأ بالافتراض أن الهوية حوارية، ومؤسسة على التفاعل مع ذات أخرى، ينتهي إلى إعلاء قيمة المونولوجات، مفترضا أن ضحايا عدم الاعتراف يمكن بل يجب أن يبنوا هويتهم بأنفسهم. وهو يفترض إلى ذلك بحق الجماعة في أن تفهَم وفقا للشروط التي تضعها هي وحدها حصرا- وأنه ما من أحد مخوّل أن يرى إلى كائن آخر من منظار خارجي، في أي حال، أو أن يخالف الآخر بالكيفية التي يفسر فيها الآخر ذاته. على أن هذا يجري أيضا على عكس النظرة الحوارية ويجعل من الهوية الثقافية وصفا ذاتيا منتجا ذاتيا، يقدمه المرء لآخرين بما هو ملاحظة عابرة. وإذ تسعى سياسات الهوية هذه إلى إعفاء التمثلات الذاتية الجَمعية «الأصيلة» من كافة التحديات الكامنة في الفضاء العام، نادرا ما تشجع على التفاعل المجتمعي العابر للاختلافات، بل تشجع، على العكس من ذلك، على الانفصالية والتقوقع الجمعي.

إن نموذج الاعتراف الهوياتي، إذن، مشروخ شرخا عميقا. إنه منقوص نظريا وإشكالي سياسيا، يساوي سياسات الاعتراف مع سياسات الهوية، وإذ يفعل ذلك، يشجع على تشييء الهويات الجمعية وإزاحة سياسات إعادة التوزيع.

عدم الاعتراف بما هو إخضاع لموقع

سأقترح في ما يلي مقاربة بديلة: إنها معالجة الاعتراف بما هو مسألة موقع اجتماعي. من هذا المنظار، يصير المطلوب الاعتراف به ليس الهوية الجمعية المخصوصة إنما موقع أعضاء الجماعة الأفراد بما هم شركاء كاملون في التفاعل المجتمعي. فلا يعود عدم الاعتراف يعني تبخيس الهوية الجمعية أو تشويهها، بل يكتسب معنى الإخضاع المجتمعي- أي منع مشاركة الأفراد كنظراء في الحياة المجتمعية. على أن تقويم هذا الظلم لا يزال يتطلب سياسة اعتراف، ولكن هذا لن يعود مختزلا في منظور «نموذج الموقع» إلى مسألة هوية، بل يعني بالأحرى اعتماد سياسة هادفة إلى التغلب على الإخضاع من خلال تثبيت الطرف غير المعترف به بما هو عضو كامل العضوية في المجتمع قابل للمشاركة مع الآخرين على قدم المساواة.

اسمحوا لي أن أشرح ذلك. النظر إلى الاعتراف بما هو مسألة موقع يعني تفحص الأنساق المؤسساتية للقيمة الثقافية بحثا عن آثارها على المكانة النسبية للفاعلين المجتمعيين. فإذا ومتى اعترفت تلك الأنساق بالفاعلين بما هم أكفاء، قادرون على المشاركة على قدم المساواة في الحياة المجتمعية، إذ ذاك يمكننا الحديث عن اعتراف متبادل وعن مساواة في الموقع. وفي المقابل، حين يجري تعيين بعض الفاعلين على أنهم دونيون، ومستبعَدون، وغرباء كليا أو محتجبون ببساطة، وبعبارة أخرى، بما هم أقل من شركاء كاملين في التفاعل المجتمعي- إذذاك نستطيع الحديث عن عدم اعتراف وإخضاع موقعي. من هذا المنظار، لا يكون عدم الاعتراف تشوّها نفسانيا ولا أذى ثقافيا مجانيا إنما هو علاقة ممأسسة من الإخضاع المجتمعي. وبالتالي فعندما تكون عرضة لعدم الاعتراف، فهذا ليس مجرد النظر إليك نظرة سوء، أو نظرة تعال أو تبخيس في عين آخرين في المعتقدات أو التمثلات. الأحرى أنه إنكار لموقعك بما أنت شريك كامل في التفاعل المجتمعي، وفق أنساق ممأسسة من القيمة الثقافية تحرم المرء حقه في الاحترام أو التقدير قياسًا بالآخرين.

على أن عدم الاعتراف، من منظار نموذج الموقع، لا يتواصل من خلال تمثّلات أو خطابات ثقافية طافية بلا مرتكزات، إنه يتوالد، كما سبق، من خلال أنساق ممأسسة، بعبارة أخرى من خلال آليّات تشغيل مؤسسات مجتمعية تنظّم التفاعل وفق معايير ثقافية عادمة للتكافؤ. قد تشتمل الأمثلة على سياسات الخدمة الاجتماعي التي تصم الأمهات الوحيدات بأنهن طفيليات ومنحلات جنسيا، كما تشمل ممارسات أمنية، مثل «الاشتباه بناء على العرق»، تربط الأشخاص المحددين عرقيا بالميل إلى الإجرام. في كل واحدة من هذه الحالات، ينتظم التفاعل عن طريق نسَق مؤسساتي من القيمة الثقافية فتتشكل بموجبه بعض فئات الفاعلين المجتمعيين بما هم قياسيون فيما الآخرون ناقصون أو دونيّون: «الأسَر ذات الرأس الذكوري» سليمة، «الأسر ذات الرأس الأنثوي» ليست كذلك، «البيض» مطيعون للقانون، «السود» خطرون. في كل حالة من هذه الحالات، تكون النتيجة إنكار حق بعض أعضاء المجتمع في أن يكون لهم موقع الشركاء الكاملين في التفاعل والقدرة على المشاركة مع الباقين على قدم المساواة.

وكما يتبين من هذه الأمثلة، فإن عدم الاعتراف يمكن أن يتخذ أشكالا متنوعة. وفي مجتمعات اليوم المعقدة والمتمايزة، نلقى أن القيَم المانعة للتكافؤ ممأسسة في عدد من المؤسسات وفق أنماط متباينة نوعيا بعضها عن بعض. في بعض الحالات، يكون عدم الاعتراف مكرّسا جهارا في قانون وضعي؛ وفي حالات أخرى، ممأسسا في سياسات حكومية، وقواعد إدارية أو ممارسات مهنية. ويمكنه أن يكون ممأسسا على نحو غير رسمي، في أنماط تشاركية، وأعراف عريقة أو رواسب ممارسات مجتمعية فاعلة في المجتمع المدني. ولكن مهما تكن الفوارق من حيث الشكل، يبقى جوهر الظلم واحدا: ففي كل حالة، ثمة نسق قيمة ثقافية ممأسس يعين عددا من الفاعلين المجتمعيين على أنهم أدنى من أعضاء كاملين في المجتمع ويمنعهم من المشاركة على قدم المساواة مع الآخرين.

في نموذج الموقع، إذن، يشكل عدم الاعتراف نوعا من الإخضاع الممأسس ويكون بالتالي خرقا خطيرا للعدالة. فحين يقع ومتى يقع، وجبت المطالبة بالاعتراف. ولكن لنلاحظ بدقة ما الذي يعنيه هذا: إنه لا يهدف إلى تزكية الهوية الجمعية وإنما إلى التغلب على الإخضاع، ففي هذا المقاربة، تسعى المطالبة بالاعتراف إلى تثبيت الطرف المخضَع بما هو شريك كامل في الحياة المجتمعية، قادر على التفاعل مع آخرين على قدم المساواة. إنها تسعى، بعبارة أخرى، إلى نزع الصفة المؤسساتية عن أنساق القيمة الثقافية التي تعيق التكافؤ في المشاركة وتستبدلها بأنساق تشجع عليها. فبات تصحيح عدم الاعتراف يعني تغيير مؤسسات مجتمعية – وبدقة أكبر، تغيير القيم الناظمة للتفاعل التي تعيق التكافؤ في المشاركة على المواقع المؤسساتية. أما كيف يتم ذلك تماما فيتوقف في كل حالة على النمط الذي به تأسّس عدم الاعتراف. فالأشكال المقوننة تتطلب تغييرا قانونيا، والأشكال الراسخة سياسيا تتطلب تغييرا في السياسات، أما الأشكال التشاركية فتتطلب تغييرا تشاركيا، وهكذا دواليك. إن نمط التصحيح وفاعليته يختلفان قدر اختلاف المواقع المؤسساتية. ولكن الهدف هو ذاته في كل حالة: فتصحيح عدم الاعتراف يعني استبدال أنساق القيمة الممأسسة التي تعيق التكافؤ في المشاركة بتلك التي تمكنها أو تشجع عليها.

على العموم، إذن، ليس نموذج الموقع ملتزما سلفا بأي نمط من أنماط علاج عدم الاعتراف. الأحرى أنه يسمح بمروحةٍ من الإمكانات اعتمادا على الحاجات المخصوصة للأطراف الخاضعة ليمكنها من المساهمة بتكافؤ في الحياة المجتمعية. فقد تحتاج، في بعض الحالات، إلى أن تتحرّر من نزعة التمايز المتطرفة، أكان التمايز أصليا أم مكتسبا؛ وقد تحتاج في حالات أخرى إلى فرض الاعتراف بتمايز لم يحظ باعتراف كاف من قبل. في المزيد من الحالات، قد تحتاج الأطراف الخاضعة إلى نقل التركيز إلى مجموعات مسيطِرة أو متميزة، بما ينزع التمايز عن هذه الأخيرة التي كانت تتشاوف زورا بأنها ذات بعد شمولي. ومن جهة أخرى، قد يكون المطلوب حاليا هو تفكيك شروط إنتاج الاختلافات المكتسبة. وفي كل حالة من تلك الحالات، يفصل نموذج الموقع المعالجَة لتناسب الإجراءات العينية التي تعرقل التكافؤ. وهكذا، فعلى خلاف نموذج الهوية، لا يقدم نموذج الموقع امتيازا مسبقا لمقاربات تعلي من شأن الخصوصية الجمعية. الأحرى، أنه يسمح مبدئيا بما قد نسميه اعترافا شموليا واعترافا تفكيكيا، كما يسمح بالاعتراف الجازم بالاختلاف. ومجددا، فالنقطة الحاسمة هي أن سياسات الاعتراف وفق نموذج الموقع، لا تتوقف عند حدود الهوية بل تسعى إلى معالجات مؤسساتية للأضرار المكرّسة في مؤسسات. وإذ تركّز هذه السياسة على الثقافة في أشكالها الراسخة اجتماعيا (قياسا إلى أشكالها الطليقة)، تسعى إلى تجاوز إخضاع الموقع عن طريق تغيير القيم التي تتحكم بالتفاعل، فترسّخ أنساق قيم جديدة تروّج للمشاركة المتكافئة في الحياة المجتمعية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* فيلسوفة وناقدة ونسوية أميركية، معروفة بنقدها لسياسات الهوية وللحركات النسوية الليبرالية المتخلية عن العدالة الاجتماعية

مجلة “بدايات” الفصلية – العدد 32 – 2021

عرض مقالات: