مرت قبل أيام الذكرى الرابعة بعد المئة لإنتصار ثورة إكتوبر الإشتراكية العظمى، التي مثلت لأجيال من الشيوعيين والديمقراطيين حلم قيام مجتمع يتمتع فيه البشر بآدميتهم. كما تمر بعد أسابيع الذكرى الثلاثون لتفكك الإتحاد السوفيتي الذي كان نتاجاً لتلك الثورة، وإنهيار التجربة الأولى لدولة إشتراكية حديثة في العصر الراهن.

وككل عام تشهد هذه الذكرى المهيبة أو تلك، سجالات وحوارات واسعة، بعضها يتسم بالموضوعية والرقي وبحسن الإصغاء وعدم إدعاء العصمة، بينما يفرط البعض الأخر في مجافاة ذلك، متشدقاً بديمقراطية تضمن له حق النقد وتحجب عن الأخرين حق الرد عليه! ولعلنا نستطيع بعجالة تلخيص أبرز تلك السجالات بالنقاط التالية:

أولاً: هل جاءت الثورة في ميعادها؟

يدعي البعض بأن ثورة إكتوبر كانت فعلاً إرادويا وتعجلاً ثورياً، أحرق المراحل وبالغ بأهمية العامل الذاتي، غير أن أي تقييم موضوعي لما حدث يشير الى أن الثورة كانت قراءة محددة للماركسية في ظروف روسيا، هذه القراءة التي أوضحت بأن روسيا هي أضعف حلقة في سلسلة النظام الرأسمالي العالمي، بسبب تخلفها الزراعي والصناعي وبسبب الويلات التي جرتها عليها الحرب العالمية الأولى، وهي لهذا الحلقة الأسهل على الكسر. 

ولم تكن إستراتيجة البلاشفة وتكتيكاتهم قد بنيت على رؤى نظرية مجردة فقط، بل كانت حصيلة تراكم الخبرة الثورية، وإستجابة لرفض ملايين الناس للواقع وإستعدادهم للعمل المنظم، وهو ما تمثل في سلسلة من الثورات والإنتفاضات والهبات الواسعة التي لم يكن لها غير هدف مشترك واحد هو الحرية والعدالة الإجتماعية، حتى وصل عددها الى 33 ألف تمرد خلال 15 عام، أي بمعدل 6 تمردات في اليوم الواحد.

وتجدر الإشارة أيضاً الى أن البلاشفة لم يلجأوا للثورة البروليتارية الا بعد أن خانت حكومة كيرنيسكي البرجوازية مطامح الناس الذين أوصلوها للسلطة بثورة شباط، حين رفضت إبرام السلام وتوفير الخبز وأّصرت على مواصلة الحرب وتركت الأراضي في حوزة الإقطاعيين وانحازت للنبلاء والطفيليين والملاكين العقاريين ومارست العنف والقمع الوحشي ضد الناس.

ولهذا فإن عدم قيام ثورة إكتوبر في حينها، لم يكن ليفتح الطريق أمام تطور رأسمالي سريع كما يدعّي البعض، بل كان سيحول روسيا الى تابع رأسمالي متخلف. يقول تروتسكي “لو قدر للرأسمالية أن تعود الى روسيا بعد اكتوبر، لكانت ستظهر ذات العجز التاريخي الذي أظهرته قبيل إنفجار 1917”. وقد أثبتت عودة الرأسمالية الى هذه البلاد تلك المقولة، حيث حدثت ولازالت فوضى شاملة أفقرت الملايين وزادت أعداد الفئات المهمشة، فيما إنخفض الإنتاج الصناعي في روسيا بنسبة 50% والزراعي بنسبة 60% و نهبت المافيات الثروة الوطنية، وتم تهريب الرساميل الوطنية بما يقدر بـ 450 مليار دولار(1). وجرى تحطيم القيم الانسانية التي عمدت الأنظمة الإشتراكية لغرسها بين الناس وإنتشرت العنصرية والأنانية والجريمة المنظمة والدعارة والرشوة وغيرها، حتى بلغ عدد العصابات 9000 عصابة تهيمن على 400000 مؤسسة وتمتلك 450 بنكاً.

ثانياً: هل كان العنف مبرراً؟

إعتاد أعداء ثورة أكتوبر إستغلال ما رافقها من عنف، الى الحد الذي تم فيه وصف ثورة شارك فيها ملايين الجياع والحفاة بإنها لم تكن سوى إنقلاب دموي، فيما تم التغافل البشع عن موت مليوني روسي على الجبهة و ثلاثة ملايين روسي بسبب الأوبئة وسيادة الأمية والعبودية في أرجاء البلاد! ولهذا يحق للمرء التساؤل عما إذا كان هؤلاء السادة لا يرون في إنتشار الجوع وارتفاع الاسعار بمعدل 11,9% واهدار ثروة بلغت 115 ترليون روبل، وإرتكاب الفاشست الكورنولوفيين لمجازر لا عد لها وتدخل 14 دولة بمئة وثلاثين ألف جندي، عنفاً؟ وما إذا كان دفاع ملايين الجياع البؤساء عن حقهم في الحياة والعمل والتعليم والصحة عنفاً دموياً؟ وما إذا كانت هذه الحقوق أقل قدسية من حق التعبير عن الرأي وحرية التملك؟

ويبدو مهماً أيضاً التأكيد على حقيقة يجري إنكارها، تتمثل في إن الأحداث السياسية التي رافقت الثورة كانت تصويتا ديمقراطيا حقيقيا لصالح مشروع البلاشفة، حين قرر مؤتمر سوفيتات روسيا الذي إنعقد بمشاركة مندوبين من كل أرجاء البلاد، تأييد قرار إزالة حكومة كيرنسكي بموافقة 590 مندوباً مقابل رفض 80 مندوباً أي بنسبة 88% !

ثالثاً: ماذا تحقق؟

وتسعى الأصوات غير المنصفة الى حجب منجزات الثورة والتعتيم عليها كجزء من حملة التشوية التي تشنها. ولهذا لا بد من الإشارة الى ما حقتته ثورة أكتوبر والنظام الذي ولد عنها من منجزات على صعيد التاريخ البشري كله.

لقد تمكنت روسيا بفضل ثورة أكتوبر من تخطي تخلفها الإقتصادي والثقافي لتصبح دولة عظمى خلال سنوات قليلة، عبر نقل السلطة من طبقة أُستنفذ دورها التاريخي (تعفن النبلاء والطفيليين من جهة وعجز البرجوازية التام وغربتها عن الشعب من جهة مكملة) الى طبقة أشرقت عليها شمس التطور الموضوعي. كما أدخلت الثورة مجتمعات مختلفة في درجة تطورها (رعوية ــ رأسمالية متخلفة) الى فضاء الحضارة الحديثة، عبر إنهاء فوضى الإستغلال الوحشي وبناء مجتمع متجانس، يسوده جمال العدالة والمساواة. وتم تحقيق منجزات غير مسبوقة في مستوى الخدمات الأساسية للناس كالتعليم والصحة والنقل والسكن والطرقات والتغذية ورعاية الأطفال والحاجات الثقافية وغيرها.

لقد حقق الأتحاد السوفيتي، وقبل أية دولة أخرى، قضاءً شاملاً على الأمية، وتطوراً مذهلاً في التعليم الأساسي والجامعي والعالي، وكان 70% من سكانه من حملة الشهادات الثانوية والمهنية و10% من حملة الشهادات الجامعية، وإعتبر الدولة الأولى في العالم في ميدان التعليم، وعُرف ببلاد العلماء والمخترعين والفنيين، وكان أول من أطلق قمراً صناعياً وأول من غزا الفضاء.  

ولأول مرة في التاريخ، حققت المرأة مساواة حقيقية، حيث كان 75 – 80% من العاملين في الصحة والتعليم من النساء، واحتلت المرأة ما يقارب نصف الوظائف الحكومية، ومُنع تشغيلها في المهن الشاقة وتوفرت لها امتيازات خاصة اثناء الحمل والرضاعة وتربية الأطفال، فيما كانت أعداد دور الحضانة ورياض الأطفال ومراكز تشغيل وتأهيل النساء، أكبر بكثير منها في الغرب الرأسمالي.   

ولعبت التأثيرات الإيجابية للثورة دوراً مهماً في تفكيك النظام الكولونيالي وتحقيق الإستقلال السياسي لمجموعة كبيرة من الشعوب التابعة والمستعبدة، وأعاقت الهيمنة الكاملة للأمبريالية على العالم. كما أضطرت الرأسمالية، وخشية من قوة المثل الذي ضربته التجربة الإشتراكية، الى تحقيق وتنفيذ ما أصطلح علية دولة الرفاه الاجتماعي وبمستويات متباينة ومتذبذبة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) خيارنا الإشتراكي - الوثيقة الفكرية للحزب الشيوعي العراقي

عرض مقالات: