في كتابه المكمّل لكتاب “الثقافة والمجتمع”، والذي اتسم بإحاطة نظرية وتأمل أكثر عمقا، وصدر بعنوان “الثورة الطويلة” (1961)، نقل ويليامز انتباهه من “التراث” إلى بريطانيا المعاصرة، وأكد أن الثقافة نشاط “عادي” وليست تخصصا حكرا على النخب المتفرغة، بل تشمل “طريقة كاملة في الحياة”. وهي أيضا جوهرية، وليست “صلاة نعمة بعد الوجبات” بل نسخة مطورة من الجهود الضرورية التي نبذلها كل يوم كي نفهم (من خلال التفسير والوصف) بيئتنا كي “نتمكن من أن نعيش فيها بنجاح أكبر”. ما اعتُبر بوصفه “ثقافة” لم يكن ما دُرس في قاعات المحاضرات في كامبردج فحسب أو ما يُعرض في المتاحف، بل يمتد كي يشمل جميع أنواع الأنشطة كالأناشيد الشعبية وقصائد البيت الريفي والتلفزيون وشكسبير، ويضم هذا أيضا، كما زعم ويليامز، أمورا لم يُنظر إليها بوصفها “ثقافية” أبدا، أي “مؤسسات الطبقة العمالية الكبيرة” كنقابات العمال.

ومن خلال سلسلة من القراءات الهادفة لأعمال مفكرين اجتماعيين إنجليز من إدموند بيرك إلى توماس كارلايل ومن ماثيو أرنولد إلى ت.س. إليوت، طوّر وليامز مفهوما للثقافة أكثر شمولا من التقليد الرجعي المهيمن. كانت الفكرة النخبوية لأولئك الكتاب عن الثقافة بحسب ويليامز رد فعل على “الميول التفكيكية” للتصنيع.

وبعد أن نشر كتبه الثلاثة المهمة: “بلد الحدود”، “الثقافة والمجتمع” و”الثورة الطويلة”، حصل ويليامز على زمالة في جامعة كامبردج حيث عمل لبقية حياته المهنية كأستاذ لمادة المسرح من 1974 حتى تقاعده المبكر في 1983- (صدر كتاب رابع لويليامز ربما كان الأكثر شهرة بين كتبه هو “الكلمات المفاتيح”).

كتب ويليامز أثناء تلك الفترة بغزارة لا حول النظرية والتحليل الثقافي فحسب بل أيضًا روايات وسيناريوهات ونشرات وكذلك مئات المقالات والمراجعات. ويدين نتاجه الغزير بشيء ما إلى الطريقة التي أدار بها تعليمه. فرغم أنه “لطيف جدا” ومشجِّع بحسب أدريان بول الذي أشرف ويليامز على أطروحته في الدكتوراه في أوائل السبعينيات، إلا أن ويليامز لم يلمع نجمه كأستاذ جامعي يميل إلى الدقة في تعليمه. كان “محاضرا ممتازا جدا”، وامتلك “جوا من المرجعية ورباطة الجأش” كما قال إيغلتون، و”يذهلك كرجل مرتاح جدا في كينونته الخاصة”، وله جاذبية.

نأى وليامز بنفسه عن سياسة الحزب وانسحب من الحزب الشيوعي في الوقت الذي استُدعي فيه إلى خدمة العلم في 1941 وهجر أي ولاء متبق لحزب العمال في 1966 شاعرا بالقرف من تسويات هارولد ولسون لكنه كان دوما نشيطا في جهوده في التجديد الاشتراكي. عاود الظهور كشخصية رئيسة في اليسار الجديد وخاصة حين ألف “بيان عيد العمال” في أيار (1967)، في محاولة لطرح بديل اشتراكي لتشويهات الحركة الفابية لمبادئ حزب العمال والانحراف الستاليني للشيوعية.

بسبب كل هذا واهتمامه الفكري بالجماعة والسلوك الإنساني العبقري كان متحفظا و”شخصا هادئا ومنعزلا”، كما يتذكر مكابي. وأخبرني فرانسيس مولهين إنه سُئل مرة إن كان ويليامز صديقا: “قلتُ مفكرا بصوت مرتفع إنني لست متأكدا من الذي سيعتبر صديقه، وعنيت بهذا أنك تشعر دوما أن هناك ذلك الجوهر المحمي جيدا”.

ربما كان هذا البعد تقنية نقدية، طريقة للعثور على (كما عبر عن ذلك ويليامز في كتابه النقدي الكلاسيكي “الريف والمدينة”، 1973) فضاء للتنفس، على مسافة مريحة، بعيدا عن السيطرة المباشرة والمرئية”.

 بقي وليامز في كامبردج، كما قال، رغم مشاعر التناقض لديه حيال هذه المؤسسة النخبوية، لأن “الجدل الذي أنا مهتم به يحدث في أمكنة كهذه. فهنا تواجه جوهريا معارضتك الرئيسة”، وإذا جعلكَ هذا متراخيا بسبب الراحة والتراث والجمال الاصطناعي للمكان و”البنايات الرائعة والحدائق الجميلة إذن عليك أن تواصل الانسحاب. وهكذا أجد أنني دوما في كامبردج وخارجها، داخلها وخارجها”.

يتسم نسيج نثره بهذا الانسحاب. يمتلك تماسكا داخليا لكنه يمتلك أيضا شعورا منعزلا، كما لو أن كل أفكاره مشتقة من تأمل داخلي حول تجربته. وربما كانت معالجته لهذه التجربة تجريدية ولا-شخصانية بصورة غريبة. مُدح ويليامز بسبب “إحساسه التاريخي بنفسه وقدرته على النظر إلى نفسه كما لو من الخارج لكن المرء يستطيع أن يرصد أحيانا نبرة دفاعية تقريبا في الطريقة التي يسند بها التلميحات المتعلقة بالسيرة الذاتية بالتنصل من المسؤولية. وحين ناقش قرية طفولته الجبل الأسود في كتابه “الريف والمدينة” عبّر وليامز عن خصوصية ارتباطه بها قائلا: “يشعر كثير من الرجال بهذا، بأمكنتهم الأصلية..”.

كان أسلوبه متميزا ورفيعا واتسم ببناء معقد للجمل وبجمل طويلة وماهرة لغويا وتجريدية وُصفت بأنها “صعبة” و”كثيفة” و”متخثرة” و”ضبابية”. ويرى مولهيرن أن سبب غموض المعنى لديه “ناجم عن تجربته الشيوعية”، التي جعلته “يرفض أن يكون عقائديا”، ويرفض “الصيغ السهلة”. لم يثق وليامز “بالأسلوب السهل” المرتبط بجورج أورويل (الذي انتقد سياسته أيضا) مشتبها “بأي شيء يظهر مألوفا وطبيعيا هكذا”.

ربما كان نثره الدقيق والمعقد متولدا عن محاولة رؤية ما تقوم الثقافة السائدة “بتعتيمه عادة” وإيضاحه. وكما قال ويليامز تماما حين أذهله الجمال التقليدي للمنازل الريفية بأننا يجب أن نحاول رؤية العمال العاديين الذين تم حذفهم، وهم من قام ببنائها وصيانتها. بالنسبة لهذا، ربما يحتاج المرء إلى تنمية قدر من اليقظة الشديدة: أن ينسحب حين يجد نفسه “متراخيا” وقد أغرته الراحة والتراث.

فضّل ويليامز على نثر أورويل الخادع وغير المزخرف أسلوبا كان من صناعة إنسان بشكل ملموس، يعكس شكلا من العمل الواضح. إن الواقع ليس ثابتا بل “يُصنَع بشكل متواصل، بجهد مشترك”. قد تكون هذه الفكرة متعبة قليلا لكنها أيضا مفعمة بالأمل وراديكالية: إذا صُنع شيء ما يمكن أن يُعاد صنعه. يذكرنا هذا أيضا بأن الطرق الأسهل، والتي تبدو أكثر طبيعية للرؤية يمكن أن تضللنا وتلهينا وأن تبديد الأوهام الأيديولوجية ليس دوما (ربما نادرا) مجرد مسألة فتح المرء لعينيه.

قد لا نرغب بأن نرث تشديد وليامز الدقيق على الجماعة والمكان، الفئتين اللتين غالبا ما يُفْتَتن بهما اليمين. لكن تركيزه على تفاصيل التجربة المعيشة يبقى نقطة بدء حيوية لتوليد رؤى إنسانية واقعية لكيف يمكن أن تكون الأمور مختلفة.

أصرَّ ويليامز على “أن أية فكرة عن نظام اجتماعي مستقبلي يجب أن يُنظر إليها في سياقها على نحو دقيق جدا”، و”أية بلاد خاصة أو منطقة خاصة يجب أن نبدأ مما هو موجود ماديا أو متاح فيها”. من دون هذا الانتباه إلى العمل من داخل خصوصية مجتمع وثقافة ما فإن الاشتراكية نفسها، كما يبدو أن ويليامز يشير، تعرّض نفسها لخطر نسخ المنطق الاختزالي للرأسمالية، اختزال الناس إلى وحدات اقتصادية والتخطيط من أجل “نمط إنتاج” جديد ولكن ليس من أجل “طريقة حياة كاملة” يمكن أن تثير الخيال وتحفز الفعل.

إن سياسة ويليامز الاشتراكية الثقافية هي قبل كل شيء مشروع ديمقراطي غني المصادر. لا يستحض رؤى طوباوية ولا يفرض خططا مهيبة من الأعلى، بل يصر على البداية من حيث نحن. لا توجد قفزة سحرية من حاضر يتسم بالفوضى الكاملة إلى بديل غير مدنَّس، بل فقط سيرورة طويلة لا تنتهي أبدا من الصراع من أجل طرق في الحياة معا أكثر عدلا ومساواة، طرق لا تشبه عودة إلى أزمنة أبسط وتماثلية، أو من أجل طرق “للاستمرار” في الحياة معا، كما عبر ويليامز أحيانا عن هذا: “لا نبدأ من لا شيء بل من منتصف الأشياء، وارثين إرثا من الإنجازات السابقة ومعتمدين على جيوب المقاومة البازغة ولحظات التضامن. لا يوجد نظام اجتماعي مهيمن يستنفد كل الممارسة البشرية والطاقة البشرية والنية البشرية”.

يحتوي نثر ويليامز على ومضات من الوضوح الساطع إلا أنه يتطلب جَلَدا بالرغم من هذا. ويمكن أن يساعد تأكيده المنتظم على المدى الطويل والدقة الصارمة الصبورة لفكره على تعويدنا على التعاقب الحتمي لخيبات الأمل المباشرة.

كتب كريستوفر برينديرجاست: “لا شيء يبدو أكثر بعدا عن أسلوب ويليامز الدقيق من جنس الشعار”. وأن نحكم بالشعارات، كما قال ويليامز، هو أن نجازف “بفقدان مريع للمستقبل: خسارة مستقبل اشتراكي يستطيع الناس أن يبدأوا بتخيله ماديا”. أضاف: “نريد ما هو أكثر من هذا. إن التحدي هو بالتالي تحدي تعقيد ضروري”.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ترجمة أسامة إسبر عن مجلة “نيوستيسمان”

موقع “جدلية” – 16 أيلول 2021

(مقتطفات ضافية)

عرض مقالات: