في العقود الاخيرة اطلق “مهندس الاصلاحات الاقتصادية” في الصين (1978) دينغ سياو- بينغ محور سياسة الحكومة الصينية لبناء “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية الخاصة”، داعيا الى اعتماد “اقتصاد السوق الاشتراكي” كطريق وحيد – حسب قوله - لتجنيب الصين الفقر والركود، وجسد ذلك في عبارته الشهيرة “لا يهم اذا كان القط رماديا او أسود ..المهم ان يلتهم الفئران”. ولكن قبل ذلك لابد من الاشارة الى ان الفترة التي شهدت التحول نحو “اقتصاد السوق” مرّت بخمس مراحل هي:

المرحلة الاولى وتشمل السنوات (1978 – 1984)

في هذه المرحلة تم البدء بإجراء اصلاحات في القطاع الزراعي والصناعي. وفي هذا الصدد، وعلى مستوى القطاع الزراعي، اتخذت عدة اجراءات منها الغاء الكوميونات والتعاونيات الزراعية، وتوزيع الاراضي الزراعية على العوائل الفلاحية. أما على مستوى الصناعة فإنه وعلى وفق تجربة “مناطق التصنيع المخصص للتصدير”، انشأت الصين في عام 1979 أربع مناطق اقتصادية خاصة. وبدأت في هذه المناطق بتجربة عدد من السياسات التفضيلية بهدف جذب رؤوس الاموال والتقنية الاجنبية. وسرعان ما اصبحت هذه المناطق مثل مختبرات تقاس فيها عملية اقتصاد السوق وأدائها.

المرحلة الثانية وتشمل السنوات (1984 – 1992)

ففي شهر تشرين الأول/أكتوبر 1984، صادقت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني على نظام مختلط يتعايش فيه السوق والخطـة، ويبدأ بتحرير الأسعار، ولا مركزية التجارة الخارجية، وتوسيع درجة استقلال المنشآت. وفي هذه المرحلة تم التركيز على القطاع الصناعي وذلك عبر اجراء اصلاحين:

  1. اصلاح نظام الشركات الصناعية وأساليب إدارتها؛ من خلال تحويل هذه الشركات العامة الى شركات تسير وفقا لآليات ومبادئ السوق واعتماد الربح كمعيار لكفاءة هذه الشركات.
  2. اصلاح نظام التسعير، وذلك عبر اعتماد اسلوب التسعير المزدوج، اي تحديد تسعيرين للمنتجات السلعية: فهناك اسعار للسلع تحدد من طرف الدولة لجزء من السلع المنتجة، اما الجزء الآخر فتحدده آليات السوق. ولكن التجربة أكدت ان الاسعار التي تحددها السوق كانت أعلى بكثير من الاسعار التي تحددها الدولة مما ادى الى نشوء ثغرة للفساد المالي استغلها بعض كبار المسؤولين لصالحهم وتحقيق امتيازات خاصة.

واعتبارا من عام 1984 شهدت الصين انشاء 14 مدينة ساحلية وأيضا تطبيق “استراتيجية التنمية الساحلية” التي طرحها رئيس الوزراء آنذاك زهاو زيانج. ولعل ابرز ما ميّز هذه الإستراتيجية، هو انتقال ما يزيد على 80 في المائة من الصناعات الانتاجية – في غضون بضع سنوات – من هونغ كونغ الى جنوب الصين، كما دعمت هذه الاستراتيجية تجارة الصين الخارجية وقادت الى ادماج الصين بالاقتصاد العالمي وهذا الاخير في جوهرة اقتصاد رأسمالي.

في خريـف عام 1988، ولمواجهة التضخم جمدت الحكومة الصينيـة الإصلاحـات، وفرضت الرقابة من جديد على الأسعار. وبعد أزمة شهر حزيران/يونيو 1989، صاحب هذه الإجراءات خطاب أيديولوجي وصرامة سياسية، الأمر الذي جعل التغيرات الاقتصاديـة الجارية منذ العام 1978 موضوع خصام وصراع فكري.

غير أنه وفي كانون الثاني/يناير 1992، أرسل دينغ سياو- بينغ إشارة البدء باستئناف الإصلاحات. وفي خريف العام نفسه، حدد مؤتمر الحزب الشيوعي الرابـع عشر هدفا جديداً هو “اقتصاد السوق الاجتماعي”.

المرحلة الثالثة وتشمل السنوات (1992 – 2002)

تضمنت هذه المرحلة اجراءين:

  1. تحويل الشركات الخاسرة الى شركات مساهمة وفي حال لم تتوفق في أدائها، عندها يتم اغلاقها. ولكن كان لهذا الاجراء انعكاسات سلبية تمثلت في تسريح عشرات الآلاف من العاملين، وتفاقمت معدلات البطالة مما طرح مجددا اشكالية التناقض بين الكفاءة الاقتصادية (وفقا لآليات السوق ومنطقه) والعدالة الاجتماعية (بحسب الاشتراكية).
  2. تضمين القطاع الخاص (بشقيه المحلي والأجنبي) ضمن المشهد الاقتصادي في الصين وتطبيق ذلك من خلال تشريع القوانين والتشريعات الضامنة لعمل آليات السوق في المناطق الاقتصادية الخاصة.

المرحلة الرابعة وتمتد من 2002 لغاية 2013

رافقت المرحلة الثالثة جملة من التحديات والآثار السلبية ذات الطبيعة الاقتصادية والاجتماعية: التركيز على النمو بدلا من التنمية، تنامي البطالة، والتفاوت في توزيع الدخول، هذا اضافة الى تفاقم حدّة الفوارق الطبقية والتفاوت بين الريف والمدينة ... الخ، الامر الذي دفع السلطات الصينية الى اعتماد مبدأ تنموي يركز على التنمية المستدامة وحماية البيئة والاستغلال الامثل للموارد المتاحة. 

المرحلة الخامسة وتمتد من 2013 والتي جسدها الاجتماع الكامل الثالث للجنة المركزية الـ 18 للحزب الشيوعي الصيني بإطلاق سلسة من الاصلاحات الجديدة.

انطلقت التحضيرات لهذا النوع من الاصلاحات من واقع ان الاقتصاد الصيني يمر بمرحلة صعبة ويعيش آثار الازمة الاقتصادية العالمية التي اندلعت في الربع الرابع من عام 2008 وما تركته من تحديات، الأمر الذي استدعى القيام بإجراءات ملموسة لمواجهة ذلك.

ومن المعروف ان لدى الحزب الشيوعي الصيني تقليد اقتراح التغيرات الرئيسية في الجلسات الكاملة منذ عام 1978 عندما قررت الجلسة الكاملة الثالثة للجنة المركزية الـ 11 للحزب الشيوعي الصيني تطبيق “سياسة الاصلاح والانفتاح” لتنهي بذلك عقودا من العزلة كما قيل في حينه. كما وافقت الجلسة الكاملة الثالثة للجنة المركزية الـ 14 للحزب الشيوعي الصيني في عام 1993 على تطبيق “اقتصاد السوق الاشتراكي” لتمهد بذلك الطريق لانطلاق الصين الاقتصادي في عقدين متتاليين.

وخلال الاجتماع الكامل الثالث للجنة المركزية الـ 18 للحزب الشيوعي الصيني، قدم الأمين العام للجنة الحزب المركزية (شي جين بينغ Xi Jinping) تقرير عمل كشف فيه النقاب عن المبادئ التوجيهية للتنمية في الصين في هذه الفترة موضوع حديثنا.

وجاء في البيان الصادر عن الاجتماع الكامل المذكور أن الهدف العام لتعميق الإصلاحات بشكل شامل هو تحسين وتطوير “نظام الاشتراكية ذات الخصائص الصينية”. كما أن تنظيم الإصلاحات وتنسيقها ضروري لتسريع تنمية “اقتصاد السوق الاشتراكي” والسياسة الديمقراطية والثقافة المتقدمة والتناغم الاجتماعي والحضارة الإيكولوجية، وجعل العمل والمعرفة والتكنولوجيا والإدارة ورأس المال تنطلق بحيوية، والعمل على نشر جميع مصادر الثروة وتمتع جميع أبناء الشعب بعوائد التنمية بطريقة منصفة. وبالنسبة لتعميق الإصلاح الاقتصادي، قال البيان إن السوق يجب أن تلعب دورا حاسما في توزيع الموارد. كما ينبغي تحسين الآلية الاقتصادية الأساسية وتسريع تنمية نظام السوق الحديث والسيطرة على الاقتصاد الكلي والانفتاح، وذلك يتطلب تغيير نمط التنمية الاقتصادية وبناء دولة مبتكرة لتعزيز استدامة واستقرار التنمية الاقتصادية.

وأكد بيان الاجتماع الكامل على العناصر التالية:

أولا: ان الصين لا تزال في المرحلة الأولية للاشتراكية، وأن التنمية هي المفتاح لحل مسائل الصين.

ثانيا: ان مفتاح التنمية هو موازنة العلاقة بين الدولة والسوق.

ثالثا: التشديد على الحاجة إلى بناء قواعد سوق عادلة ومنفتحة وشفافة !.

 وصدرت عن دورة اعمال الدورة الكاملة الثالثة الـ 18 للجنة المركزية وثيقة بعنوان “قرار اللجنة المركزية حول عدة مسائل مهمة تتعلق بتعميق الإصلاحات على نحو شامل” وجاءت الوثيقة شاملة حيث أجازت اللجنة المركزية ما يربو على 300 إجراء إصلاحي بالإجماع، من بينها:

- تحرير الأسواق بصورة أكبر لتعزيز استقرار ثاني أكبر اقتصاد في العالم. وبموجب الوثيقة المشار اليها أعلاه فإن الصين ستوسع انفتاح اقتصادها من خلال جملة من الاجراءات من بينها:

* توسيع فرص الوصول إلى الأسواق الصينية.

* تعزيز التعاون الإقليمي وانفتاح المدن الحدودية والداخلية.

- أما في ما يتعلق بالزراعة حيث يعيش هناك نصف سكان الصين، فانه من المتوقع زيادة الانفاق على القضايا الاجتماعية، ومنح الفلاحين رقابة اوسع على الأرض، والتي رغم ذلك تبقى خاضعة للتعاونيات الريفية. وسيحصل الفلاحون على “حق إدارة” الارض مما يسمح لهم بحرية اكبر في زراعتها وأيضا الحصول على القروض.

- وبالمقابل تهدف الإصلاحات التي اقرها الاجتماع الى الحد من تأثير الحكومة على الاقتصاد ويتعلق الامر بالشركات العائدة للدولة، التي يتمتع جزء منها بمواقع احتكارية في بعض قطاعات الاقتصاد الوطني. كما تضمنت الوثيقة وعودا بتوسيع مساهمة رأس المال الخاص في القطاع البنكي. وتشير الوثيقة الى انه سيكون من الممكن تأسيس “بنوك متوسطة او صغيرة” بمشاركة رأس المال الخاص ورأس المال الاجنبي.

عرض مقالات: