يوماً، برر قريب لي، كان يسهب دوماً في الدفاع عن الرأسمالية المؤنسنة، ما يعانيه الملايين حد الموت من الجوع والتخلف والتمييز والحروب والأوبئة، ليس في الدول المتخلفة وحدها، بل وحتى في أرقى الرأسماليات “تحضراً”، بأنه نتاج طبيعي لإقتصاد السوق الذي بدونه لن يكون هناك تقدم، وبإن الأمر متسق مع فطرة الإنسان ونزعته للتملك، تلك التي خُلق بها!

سألت صاحبي المعتد بأرائه، إن كان قادراً على أن يقنعني بالسر في تركيز الثروة والسلطة بهذه الطريقة المريعة (1)، وهل يمكنه أن يجد أية علاقة بين الأنسنة وبين بؤس العشوائيات مقابل بذخ القصور، أو بينها وبين مشافٍ مجهزة بأحدث التقنيات مقابل مرضى لا يمتلكون أثمان دخولها فيموتون عند أسوارها، أو بين الأنسنة وبين بليد مثقل بالكنوز، لا لشيء الا لكونه سليل الأغنياء، مقابل عبقري عاطل عن العمل أو مشرد في الغربة لأنه سليل جياع!

طفيليون بأمتياز

قلت لصاحبي، إذا كانت أرباح أي رأسمالي، كما إكتشف ماركس، هي الفارق بين قيمة ما ينتجه العاملون وبين ما يحصلون عليه من إجور، فإن الكثير من الرأسماليين لا يحصلون على ثرواتهم اليوم من الإنتاج، بل من الميراث والهبات والتأمين وأرباح البنوك وأسواق المضاربة وغيرها. إنهم لا يقدمون شيئاً لمجتمعاتهم، فهم لا يستثمرون أو ينظّمون العمل كما يزعمون، بل إن من يفعل ذلك أولاد الجياع من عمالهم ومساعديهم! وإذا كانت البرجوازية عند نشأتها، منتجة وطفيلية في آن واحد، فهي اليوم أكثر طفيلية، حيث تأتي ثروات أغلب أفرادها من المتاجرة بكل شيء، من أسلحة الدمار الشامل وحتى البشر!

لهذا كله، ياصاحبي، لا يعدّ من تدافع عنهم، سوى طفيليين، لأن العلاقة بين منفعة المجتمع وتعزيز آدمية البشر لا تتحقق من أي إنتاج كان، ولا توجد دوماً علاقة منطقية بين النجاح وبين كسب الثروات. فإذا كان من حق (أوغور شاهين)، الذي صنع لقاح التطعيم ضد كورونا، نيل أتعاب مجزية، فأي حق تملكه شركة فايزر لتكسب أكثر من 38 مليار دولار خلال عام واحد فقط من بيع هذا اللقاح، وكيف يحق للبنوك ووحوش سوق الأوراق المالية تحقيق أرباح هائلة من هذا اللقاح، وكم هي حصة السيد شاهين من كل هذه الأرباح (2)!

توحش الإستغلال

لم يزل تحليل ماركس للرأسمالية، بإعتبارها مصدراً للإغتراب والإستغلال والأزمات الدورية المتكررة، التي تؤدي لإرتفاع معدلات البطالة وتزايد البؤس، يحظى بقناعة حتى معارضيها. لقد تنبأ ماركس بالتقدم التقني الهائل الذي سيحول الرأسمالية التي لم تستنفد طاقاتها على التطور، الى منظومة عالمية، تتناقص فيها حصة رأس المال المتغير الذي يشكل المصدر الرئيسي لفائض القيمة، قياساً برأس المال الثابت، مما سيدفع الرأسماليين الى تخفيض تكاليف الإنتاج عبر تخفيض الأجور وزيادة ساعات العمل والتلاعب بالمواد الأولية في صناعة ونوعية السلع.

تؤكد الإحصائيات الأخيرة، تلك النبوءات، حيث تشير الى إن حصة الشغيلة من الدخل القومي في الدول الرأسمالية في تناقص متواصل فيما تزداد كل يوم حصة أصحاب رأس المال، ففي الولايات المتحدة مثلاً حقق رؤساء الشركات مايقارب 300 ضعف ما حققه العامل الأمريكي في عام 2013 بعد أن كان 20 ضعفاً عام 1965. وفي بريطانيا زاد هذا الفرق من 160 ضعفا عام 2010 الى 200 ضعف عام 2013. وفي السويد (دولة الرفاه الإقتصادي!) ارتفع الفرق من 9 أضعاف عام 1980 الى 54 ضعفاً عام 2013. كما نجح الرأسماليون في سرقة حتى أيام العطل حيث دُفع العمال لإنفاق أموالهم المستحقة عن ساعات عملهم، على شراء وسائل الترفيه في أيام راحتهم. وبهذا تم عملياً إجبارهم ليس على إنتاج فائض القيمة في أيام العمل فحسب بل وأيضاً تحقيق أرباح للرأسماليين في أيام العطل أيضاً. إن تعلقنا بالمنتجات الحديثة، والكمالية أحيانا، وما نصرفه على الموبيلات ووسائل اللهو لنا أو لأطفالنا دليل صارخ على ذلك (3).

وفي الوقت الذي لا تعترف فيه منظمة التنمية والتعاون الإقتصادي، بوجود بطالة إذا ما كانت نسبتها اقل من 5%، تبدي الحكومات في الدول الرأسمالية قلقها من البطالة، فقط إذا ما تجاوزت 10%، رغم ما يعنيه ذلك من إهدار لطاقات الملايين. وتشير دراسة نشرتها جامعة إكسفورد (2013) الى أن نصف الوظائف في الولايات المتحدة مهددة بالإختفاء قبل 2030 بسبب الأتمتة وإستخدام الإنسان الآلي، وإن عمل شخصين اليوم غير كاف لإعالة العائلة، فيما كان عمل شخص واحد في اواخر القرن العشرين كافياً لتحقيق ذلك. وفيما كنا نعمل أكثر بأيدينا، صار وقت فراغنا اليوم أقل بكثير، رغم كل إجهزة الرفاهية والأتمتة وتطور أجهزة الإتصالات.

وبديهي أن يكمن في هذه المآزق، سبب الأزمة الدورية للرأسمالية، والتي لا مناص منها كما أشار ماركس، ففوضى السوق، التي تعمل بشكل موضوعي وخارج إرادة الناس، وإعتماد الربح سبباً وحيداً للإنتاج، سيزيد من البطالة ومن ساعات العمل وسيقلص الأجور بحيث يعجز العاملون عن شراء كل ما ينتجون، ويولد فائض متزايد في الإنتاج. ومع إزدياد القدرة الإنتاجية وتقلص السوق، يولد الكساد، الذي يدفع المنتجون الحقيقيون فقط ثمن كوارثه، حيث لا تستطيع الماكنات والإنسان الآلي من شراء فائض الإنتاج!

إن هذا دليل أخر لدينا لتوأمة الرأسمالية مع التوحش، ففيما ينتظر البشر من التقدم العلمي رفاهية وسعادة، تكون الأتمتة سبباً في تشريد الملايين وتجويعهم، فيما تزداد ثراء أقلية صغيرة وتشتد كما نرى معاناة الأكثرية الساحقة من سكان الأرض.

ما العمل لأنسنة المجتمع البشري؟

تؤكد الماركسية على أن الرفاه الإجتماعي للبشر لن يتحقق بدون إبعاد الربح كدافع للإنتاج ، وإلغاء هيمنة رأس المال(4)، والمتمثلة اليوم بما يقارب من 150 إحتكاراً عالمياً وعدد من البنوك والمؤسسات المالية، وتحرير المنتجين الحقيقيين والشركات الصغيرة من إستغلالهم وهيمنتهم، ودمقرطة العملية الإنتاجية، والربط بين الإنتاج والإحتياجات وإستثمار الفائض لتحقيق رفاهية المجتمع كتوفير العمل والمساكن اللائقة للجميع، والخدمات التعليمية والصحية المجانية، وتقليص تكاليف التدفئة والطاقة والمواصلات العامة، وصيانة البيئة والحفاظ عليها، وإنهاء الإنفاق على الأسلحة (5).  

كما يمكن تماماً تقليص ساعات العمل الإسبوعية وخفض سن التقاعد، لأن الأتمتة ـ التي لا علاقة لها بالجشع الرأسمالي ـ ستمنح الناس أوقات فراغ أكبر، وتوفر فرصاً أفضل للسعادة والتقدم الحقيقي وصيانة العلاقات الأسرية وتعلم الفنون والتمتع بالنتاج الإبداعي، والمساهمة في جماعية الإدارة. إن إقتصاداً كهذا سيضمن للجميع الكرامة الآدمية ويربط بين المداخيل وزيادة الإنتاج.

وهذا هو السبيل الحقيقي للوصول الى نهاية الرأسمالية المتوحشة، وبناء المجتمع اللاطبقي، الذي يختفي فيه والى الأبد إستغلال البشر لبعضهم، ويصبح الإنسان إنساناً كما خُلق، بلا نزعات استعباد واستغلال، كما إدعى زوراً، قريب لي في يوم ما!

ــــــــــــــــ

الهوامش

  1. يمتلك ثمانية من مواطني الدول الرأسمالية أكثر مما يمتلكه نصف البشرية.

  2. خصص الملياردير وارن بافيت، مبلغ 128 مليار دولار لشراء الشركات المتعثرة، أو التي ساهم في تعقيد أوضاعها عبر نفوذه في السوق المالية وشركات التأمين، فإستحوذ على مجموعة منها، مما حقق أرباحاً بحدود 354 مليار دولار خلال سنوات، دون أي عمل أو إدارة.

  3. يقول جيمس فيلتشر في كتابه (مقدمة قصيرة عن الرأسمالية) أن الترفيه أصبح مصدراً مهماً للإستهلاك وصار يحقق أرباحاً هائلة، بعد أن اعتاد العمال على شراء ساعات الترفيه، حيث راحت صناعاته وإحتكاراته الجديدة تغذي الإنتاج الرأسمالي.

  4. من أنصع التجارب في الإقتصاد الإشتراكي، المخطط له والذي يستبعد الربح المباشر، تمّكن الإتحاد السوفيتي من بناء 100 مليون مسكن، خلال 10 سنوات (1958 -1968).

  5. يوجد الآن أكثر من 15850 رأساً نووياً في العالم، فيما تعمل الدول الرأسمالية والتابعة على أنفاق تريليون دولار جديدة لإنتاج أسلحة الدمار الشامل خلال (2015 – 2025)!

عرض مقالات: