شغلت مسالة البحث حول اشكال الحضارات الانسانية واسباب صعودها وهبوطها واضمحلالها العديد من الباحثين ومن اتجاهات فكرية وفلسفية متباينة، وبعضها تدور في حلقة مفرغة من الفرضيات والتصورات التي تطلقها فضاءات التصور والخيال المثالي، واحيانا لها اسس فلسفية تعود الى التعاليم التي تركها عباقرة الفلسفة اليونانية كأفلاطون وارسطو او المدارس الفلسفية الحديثة، حتى جاء معلما الماركسية الأولان ماركس (مايس 1818-  أذار 1883)  وانجلز (28 تشرين الثاني 1820 – 5 آب 1895) في القرن التاسع عشر اللذان اكتشفا الفكر المادي الجدلي وتطبيقاته على المجتمع الذي يطلق عليه المادية التاريخية في تحليل ودراسة الظواهر الاجتماعية على اساس مقولة تعاقب   التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية كأداة تحليل منهجية لقراءة جوهر عمليات تفسير وتغيير الواقع كجزء من عملية التبديل الثوري الصاعد للمجتمعات البشرية. وقد حظيت بقدر كبير من الجدل والتطوير من قبل رموز الفكر الماركسي الذين جاءوا بعدهم ومواجهة حملات معادية من المفكرين الاقتصاديين  وفي علوم التاريخ والاجتماع والتي سادت بشكل خاص في فترة الحرب الباردة في القرن العشرين وفترة مابعد انهيار الاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية القائمة في 1989 عندما بشر منظرو الليبرالية الجديدة في حينها بالانتصار التاريخي للرأسمالية، وقدم فوكويام أطروحة نهاية التاريخ والإنسان الأخير التي نشرها في مجلة ناشيونال إنترست عام 1989 قبل أن يتوسع فيها ويصدرها على شكل كتاب والتي جادل فيها بأن تطور التاريخ البشري كصراع بين الأيديولوجيات انتهى مع استقرار العالم على الديمقراطية الليبرالية وأيضا نهاية التاريخ والتي تعني كاتجاه وليس كأحداث وأن  الديمقراطية الليبرالية هي نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان والتي تراجعت مع أزمات النظام الرأسمالي العالمي كالذي حدث في 2007-2008 وبدأت مراجعات فكرية ونظرية في  دراسة جذور ازمة النظام النقدي العالمي وانتعشت الدراسات حول تحليل ماركس لطبيعة المجتمع الرأسمالي والديناميكيات التي تحركه .

أربعة منطلقات للتحليل

وسادت في المجتمعات الشرقية ظاهرة الاعتماد على التفسيرات الغيبية او المسطحة في تفسير الطواهر التاريخية والمجتمعية دون الخوض في جوهرها و قوانينها ومنها مثلا في العراق اليوم حيث يعزى واقع التردي السياسي الاجتماعي وفي احد اغنى بلدان العالم بما يمتلك من ثروات طبيعية وقدرات بشرية الى الابتعاد عن الحكم الإسلامي الرشيد او فشل المنظومة الاسرية الاخلاقية ومنها ايضا فقدان الهوية العراقية بل وتصل الى حد عدم وجود لشعب عراقي بل افراد ومذاهب ومكونات اختزلت بشكل قسري الى سنة وشيعة واكراد كأساس فكري لتجزئة العراق مع اقتباس فقرات من الرسالة السرية التي كتبها الملك فيصل  الأول ( مايس 1883-أيلول 1933 ) يشكو فيها من صعوبة حكم العراق وتبريرات أخرى جميعها تسعى الى تضليل الوعي وشق وحدة النضال المشترك للقوى صاحبة المصلحة في التغيير الجذري للنظام الحالي وضد الطغمة الفاسدة التي استلمت السلطة بعد ٢٠٠٣ .

الا ان الموقف المادي العلمي لتحليل الظواهر التي يشهدها العراق سابقا واليوم يعتمد على اربعة منطلقات: الاول ماهي مسببات ظهور الاشكال والسمات  السياسية الاقتصادية الاجتماعية التي يتميز بها الوضع العراقي، وثانيا منظومة القوانين العامة التي تتحكم فيها وثالثا العلاقات الداخلية المترابطة في هذه الظواهر والمتفاعلة فيما بينها، وأخيرا ماهي متطلبات وشروط اضمحلالها  انتقالها الى اشكال اخرى في سياق عملية ثورية على اساس تحديد وجهة تطور المجتمع العراقي ليس كمفهوم مجرد عام بل بصياغته الواقعية كانعكاس للنشاط المتبادل بين البشر والنشاط الفكري البشري الواعي، ويكمن اساسه المادي في اسلوب انتاج الخيرات المادية والذي هو نظام اقتصادي ريعي رأسمالي تابع ومشوه. ولا يتحقق ذلك   عبر الجلوس في قاعة الدراسات البحثية بل ربطه بالممارسة العملية لتغيير الواقع العراقي كون الممارسة هي معيار الحقيقة، الامر الذي يتطلب تحديد واضحا وفهما دقيقا للمقولات التي تشكل أساس الفهم المادي للتاريخ  مثل التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية، نمط الانتاج، قوى وعلاقات الانتاج، اي شكل وطابع  الملكية والذي يحدد نوع  التشكيلة، الطبقات الاجتماعية، القاعدة والبنية الفوقية المرافقة لها والمتفاعلة معها والمقولات الاخرى المرتبطة بصيرورة المجتمع مثل الصراع الطبقي والثورة والانتفاضة على سبيل المثال ..الخ. وبشكل موضوعي وليس بالتعليب القسري للظواهر في اطار الهيكل النظري الفلسفي، فالوضوح الكامل لا يحدث  في المراحل الانتقالية ولكن يتكامل مع نضج وتكامل العلاقات الرأسمالية .

اعادة نظر

ومنذ بداية الحركة الشيوعية في العراق في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي كان التثقيف الفكري الذاتي والداخلي يعتمد المادية التاريخية والتشكيلة الاقتصادية الاجتماعية على  أساس النمطية الخماسية لتطور المجتمعات الإنسانية، وهي، كما هو معروف، المشاعية والعبودية والاقطاع والرأسمالية وتنتهي بالاشتراكية كعملية تصاعدية تطورية وغائية، والذي هو انعكاس لبرامج التثقيف التي اعتمدها الكومنترن في ثلاثينيات القرن الماضي.

ولكن بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في السوفيتي في شباط ١٩٥٦ وادانة المرحلة الستالينية، ظهرت دراسات في الإتحاد السوفيتي السابق ورومانيا وألمانيا الشرقية وفرنسا    وبريطانيا مستفيدة من بعض النصوص المغمورة وغير المعروفة سابقا  لماركس وانجلز  واخرين من بعدهم، سلطت الأضواء على  دراسات  تختلف في تحليل طبيعة  التكوينات   الاقتصادية الاجتماعية لبعض المجتمعات الاسيوية والشرقية والذي يختلف عن النمطية  الخماسية. وكان بعضها توسعا في تحليل نصوص لماركس وانجلز متفرقة هنا وهناك في كتابات ورسائل حول نمط ساد في الشرق واسيا اطلق عليها أحيانا بالنمط الاسيوي وسمى سلطتها السياسية بالاستبداد الشرقي في معرض وصف طبيعة الدولة السائدة فيها. وكانت  بشكل خاص كتابات ماركس حول الهند والصين والشرق الأدنى، الا انها كانت توصيفات  مقتضبة لانعدام المصادر الضرورية. فمثلا حول اسيا اعتمد ماركس على كتاب اصدره اثنان من القساوسة اللذن تجولوا في بعض المدن الصينية في القرن السابع عشر. اما الهند فمن تقارير شركة الهند الشرقية وكتاب لكولونيل طبيب بريطاني عاش في الهند حيث لم تتوفر مصادر علمية رصينة آنذاك حول مصر ووادي الرافدين والشرق وافريقيا بشكل عام مقارنة بما شهده القرن العشرون من توسع كبير خاصة في العلوم الاثارية والدراسات حول المجتمعات ما قبل الرأسمالية ومنها عن العالم الإسلامي والعراق بشكل خاص وحضارات ما قبل وبعد التاريخ في وادي الرافدين والتي حظيت باهتمام خاص من قبل المستشرقين السوفييت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي وما ساد فيها من جدل حول طبيعة التشكيلة الاقتصادية في سومر وبابل. 

تعمق الفوارق الطبقية

والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما الذي تقصده الماركسية بمفهوم أسلوب الإنتاج؟ و قد بحث رواد الماركسية واساتذتها الكبار هذا الموضوع في المتات من المساهمات الفكرية كتبا ومقالات، ويمكن تلخيصها بانها منظومة مترابطة من: أولا قوى الانتاج، وهي العناصر المادية من الطبيعة والآلات والتكنولوجيا والرأسمال او النشاط الانساني الجسدي والعقلي،  وثانيا علاقات الانتاج أي شكل وطابع الملكية  بالتحديد  من يملك  قوى الانتاج وهي أيضا تعني العلاقات التي ينسجها الناس مع بعضهم خلال انتاج الخيرات المادية او البضاعة. وتشكل قوى وعلاقات الإنتاج  الاساس المادي الذي يعتمد عليه المجتمع او ما يسمى في الادبيات الماركسية  البنية التحتية أو القاعدة والتي منها تنبثق وتتطور المنظومة القيمية  التي تعتمد عليها من نظام سياسي وقوانين واعراف وتقاليد وطقوس ومعتقدات دينية وروحية واخلاق وقيم وثقافة ( بمعناها الواسع ). وكل ذلك اطلق عليه ماركس مصطلح التشكيلة الاجتماعية  الاقتصادية التي تتطور تاريخيا وتمر بمراحل خمس اخرها النظام الاشتراكي الشيوعي.

 وفي محاولة تفسير النمو الاقتصادي تعتمد النظريات البرجوازية اختزالها بإعطاء العامل السياسي الدور الاكبر، وهو ما تعتبره الماركسية مهما ولكنه نتيجة وليس سببا كونه جزء من البنية الفوقية للمجتمع وتعطي دورا حاسما للعلاقات الانتاجية الاقتصادية بينما تعطى السلطة الدور الحاسم في البناء الفوقي. وفي القرن الحادي والعشرين يبالغ بعض المفكرين بدور الثورة العلمية والرقمية بشكل خاص الذي يقلل من الفوارق الطبقية. والواقع ان استخدامها في المجتمع يعكس الفوارق الطبقية السائدة ويعمقها في النظام الرأسمالي. أي   عندما نبحث عن اسباب التطورات الاجتماعية والثورات السياسية لا نجدها في رؤوس الناس ولا في مستوى ونوع المعرفة الانسانية  وانما في تغير طرق الانتاج والتداول ولكن بنظرة منهجية ديالكتيكية .

مفهوم التشكيلات الاجتماعية

 وقد لخص ماركس في كتابه (مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي) - ١٨٥٩ تاريخ الانسان باعتباره تاريخ  الصراع الطبقي في المجتمعات ما بعد المشاعية واكثر ما اقتبس من كتاباته حول أنماط النتاج.

 ويشير انجلز الى ان مفهومنا المادي للتاريخ هو مرشد للدراسة وليس رافعة يخدم في انشاء  كيانات نظرية على الطريقة الهيغلية. وفي رسالة كتبها الى بلوخ عام 1890 يقول ان العامل المقرر ليس العامل الاقتصادي بل هو انتاج وإعادة انتاج الحياة الواقعية كفعالية إنسانية حسية. وهناك أيضا فرق كبير بين المفهوم النظري والواقع  وعدم وجود نموذج اجتماعي خالص. فمثلا هناك اختلاف بين وجود الرقيق في المجتمعات العبودية كروما مثلا وبين مجتمع الرق كما كان في أمريكا او زمن الإمبراطورية الإسلامية.

ومن هنا فان مقولة أنماط الانتاج هي تجريد نظري لعدد من الخصائص الأساسية من ملامح وعناصر جوهرية متصلة بالإنتاج وتنظيمه وعلاقاته أي الملكية والطبقات والتبادل كجزء من عملية الإنتاج والبنية الفوقية الفكرية والسياسية التي تقوم على هذا الأساس. لذا تتواجد ملامح في التشكيلات لا تنسجم مع النمطية الاوربية للتمرحل الاجتماعي .

وقد طور ماركس مفهوم النمط الاقطاعي في الغروندريسة في القسم المتعلق بالتشكيلات ما قبل الرأسمالية. وفي الفصل ٤٧ من الجزء  الاول من (رأس المال) كان توصيفه لهذا النمط مرتبطا بتفسيره لصعود الرأسمالية كتشكيلة اجتماعية  اقتصادية اكثر رقيا من الاقطاع .

كما اعتمد ماركس بشكل كبير على مفهوم الخراج  الاقطاعي كعلاقة اقتصادية لاستخراج فائض القيمة في نظام زراعي كبير يعتمد على ملكية الارص وقلاع يملكها الاقطاعي  ويتخذ الاجبار والقسر والاكراه كي يدفع الفلاح الاجر على شكلٍ أيام عمل اوحصة من المحصول اوكمية من النقد، مقابل ذلك يحق للفلاح العيش في قرية وملكية ارض صغيرة  بينما يكون الاقطاعي سلطة كاملة، وهو موضوع مهم لدراسته عراقيا في فترة ما بعد الفتح الإسلامي في 633 ميلادي في زمن خلافة أبو بكر عندما قاد الجيوش الإسلامية خالد بن الوليد.

اما في المجتمع الرأسمالي فهناك انفصال كامل بين العامل ووسائل الإنتاج (يسمى أحيانا بالاغتراب او التشيؤ) التي يملكها البرجوازي وحيث يضطر العامل الى العمل بسبب ضرورات العيش لقاء اجر معين لشراء قوة عمل العامل.

عرض مقالات: