قبل توماس بيكيتي، أعلن بيرني ساندرز في مجلس الشيوخ الأمريكي في عام 2012: أن “الشعب الأمريكي غاضب.. غاضب لأن الطبقة الوسطى تنهار بسبب ركود وول ستريت، غاضب لأن البطالة مرتفعة جدا، لدرجة أن 50 مليون انسان لا يملكون تأمينا صحيا، وعائلات العمال لا تستطيع تحمل تكاليف دراسة أبنائها”. واستمر ساندرز في تقديم إحصاءات عن التوزيع المشوه للدخل في بلد لا يزال يعاني ركود.
وبعد عام صدر عمل بيكيتي الرئيسي حول عدم المساواة في المجتمعات الرأسمالية “رأس المال في القرن الحادي والعشرين”. أصبح للنضالات من أجل إعادة التوزيع الاقتصادي الآن أساس علمي جديد. ولكن الطريق لايزال طويلا، حتى يتم التنفيذ العملي لمثل هذا البرنامج - خاصة بعد هزيمة ساندرز وجيريمي كوربين الانتخابية. قد تساعدنا تكملة بيكيتي التي طال انتظارها، في عمله الجديد “رأس المال والآيديولوجيا”، في فهم سبب ذلك. لقد تناول كتابه الأول تطور عدم المساواة في الدخل والثروة في البلدان الصناعية، في حين يركز عمله الجديد على استمرار وإضفاء الشرعية على مثل هذه التفاوتات. لأن كل مجتمع رأسمالي يفكر في اضفاء شرعيته الخاصة على حقوق ملكيته. ويعرّف بيكيتي الآيديولوجيا بشكل مباشر على أنها “مجموعة من الأفكار والخطابات المعقولة عمومًا تصف كيف ينبغي هيكلة المجتمع”.
يصف “رأس المال والإيديولوجيا” بالتفصيل نظام الملكية في مجتمعات “الملكية” في أوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث تم تقديس حقوق الملكية إلى أقصى الحدود. قد يُنظر إلى إلغاء العبودية على أنه تتويج لإنجاز القيم الليبرالية والتنويرية، لكن مالكي العبيد تم تعويضهم بسخاء عن ممتلكاتهم المفقودة، في انسجام تام مع المعايير السائدة. لقد سددت هايتي “ديونها” لتجار العبيد لأكثر من قرن؛ ولن يغفر الغرب للشعب الهايتي أبدا كونه أول من بدأ النضال في سبيل إنهاء الاستعمار.
وعلى الرغم من أن الثورة الفرنسية أعلنت المساواة الرسمية، أصبح الحق في الملكية دينا جديدًا. كما يحاجج بيكيتي، وشمل ذلك عدم وجود اتفاق بشأن اين يجب أن تتوقف إعادة التوزيع، في حال البدء بها اصلا. وبالإضافة إلى ذلك، كان هناك خوف مستمر من أن يذهب المرء بعيدا في إعادة التوزيع. ويبدو هذا النوع من والمحاججة مألوفا بشكل لا يصدق، عند متابعة المحاولات الأخيرة لمنع الإصلاحات التقدمية، مع الإشارات الغامضة التي رافقتها إلى “العواقب غير المقصودة” و “المخاطر الأخلاقية”.
التأكيد والحديث المستمر عن أهوال الأنظمة “الاشتراكية” هو المعادل الحديث لسردية “بداية النهاية” في القرن الثامن عشر. ومن الأمثلة البارزة على ذلك الفكرة الشائعة في الولايات المتحدة بأن تدابير إعادة التوزيع الاعتيادية، مثل الرعاية الصحية الممولة من القطاع العام، والتي قد ترقى في الولايات المتحدة إلى تحويل جزء من واردات أرباح الشركات إلى الأجور - تؤدي إلى ظروف مثل تلك الراهنة في فنزويلا.
العودة لما هو طبيعي
إن الشاغل الرئيسي لبيكيتي ليس نظام عدم المساواة نفسه أو مشكلة شرعيته، بل تطوير الضرائب التصاعدية. يروي الكتاب القصة الشهيرة لارتفاع معدلات ضرائب الدخل المنخفض التي جعلت الدولة الحديثة ممكنة. ارتفع العائد الضريبي للبلدان الأوروبية بشكل مطرد: من نسبة متواضعة 1 - 3 في المائة من الدخل القومي في القرون التي سبقت الثورة الصناعية إلى 30 - 50 في المائة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
أدت السياسات المالية التصاعدية وأنظمة الرفاهية إلى استقرار الرأسمالية من خلال حل المشكلات المرتبطة بتزايد عدم المساواة. ينضم بيكيتي إلى الاقتصاديين والمؤرخين الآخرين في عصرنا عندما يحاجج بأن فترة “الليبرالية الجديدة” اللاحقة كانت مجرد عودة إلى الحياة الرأسمالية الطبيعية: أعادة نظام حقوق الملكية المقدسة تفوق بعد ثلاثة عقود من الأحلام المحمومة المرتبطة بالحرب.
ان الرأسمالية مهيأة مسبقا لتنتهي دوما بعدم المساواة. وفي النهاية، تلاشت أيضا القوى التي مثلت الوزن المضاد لأيديولوجية الملكية. قبل كل شيء، وفق بيكيتي، استولت البرجوازية على الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، التي فقدت دعم الطبقة العاملة بشكل متزايد. ونتيجة لذلك، انتصرت “الرأسمالية المفرطة” على مدى الثلاثين عاما الماضية.
يعارض بيكيتي تشخيصه بوصفة يكون الحل فيها: هو استعادة نظام ضريبي تصاعدي - هذه المرة على نطاق العالم. ينبغي ان يهدف هذا إلى امكانية الانتقال السلمي الخاضع للسيطرة السياسية إلى نوع من “الاشتراكية التشاركية” حيث يمكن للجميع التمتع “بحق عالمي في التعليم ورأس المال، وحرية تنقل الأشخاص، وإلغاء الحدود بحكم الأمر الواقع”.
ان رؤية بيكيتي الاشتراكية تتجاوز المطالبة بإعادة التوزيع الدائم من خلال النظام الضريبي. وخطته تشكك صراحة في حقوق الملكية البرجوازية. وهذا كله يمثل توجها مباشرا لتجاوز الرأسمالية الراهنة، ومطروح من قبل أحد الاقتصادين البارزين.
على خطى ماركس
من المدهش أن تكون معظم تعليقات اليسار الاشتراكي على عمل بيكيتي رافضة، هذا اذا كان هناك أي مناقشة جدية معه على الإطلاق. ان رد الفعل الأكثر شيوعا هو الاتهام بأن بيكيتي ليس ماركسيا بما فيه الكفاية، إذا ما استثنينا اشادته بماركس في عناوين كتبه.
وبالرغم من ذلك، فان السؤال المشروع: إلى أي مدى ينبغي للاشتراكيين اتباع بيكيتي؟ لقد كان الوعد، بان يكون “رأس المال والآيديولوجيا” تصحيحا لأوجه القصور في عمله السابق. وكان التركيز هنا بالتحديد على التحليل الكمي للمساواة، دون الإجابة على الكيفية التي تبرر بها النخب عدم المساواة القائمة. وكما هو الحال مع مجلده السابق، فإن الجانب الأكثر إثارة للإعجاب في عمل بيكيتي هو تجريبي، فهو يجمع العديد من المصادر: وثائق الميراث، نتائج التعداد السكاني، الإيصالات الضريبية، وخرائط الأرض، في كمية ضخمة من مجموعات من بيانات إحصائية.
في النهاية مجموعات البيانات ليست بديلاً عن نظرية التاريخ. وفي كثير من الأحيان، تشعر وكأن “رأس المال والآيديولوجيا” شكل من أشكال البنيوية لعصر TED-Talks. (سلسلة من المؤتمرات العالمية التي تهدف لتعريف ونشر الافكار الجديدة والمتميزة للعالم ترعاها “مؤسسة سابلنج الأمريكية - المترجم). على الرغم من أن بيكيتي قرأ الأدبيات وأتقن الإحصائيات، إلا أن تحليله يفتقر إلى المادة اللاصقة التي تربط كل هذه الحقائق ببعضها البعض.
وبناء عليه، فإن نقد “التفسير الماركسي” لعمل الاقتصادي الكبير ليس بلا أساس على الإطلاق. لقد لاحظ الفيلسوف الفرنسي فريديريك لوردون، على سبيل المثال، أن بيكيتي “يعزف الماركسي” دون أن يتعلم الآلات، وبالتالي يستخدم “الضبط التلقائي” ليجد طريقه إلى خطاب راسخ - دون أن يكون قادرا على قراءة النوتات بشكل صحيح. وعندما سئل عما إذا كان قد قرأ كتاب رأس المال لكارل ماركس، أجاب بيكيتي بأنه وجد العمل “صعبًا للغاية”.
في نهاية المطاف، تعتبر وجهة نظر بيكيتي عن رأس المال اقتصادية صارمة للغاية دون وجود سياق اجتماعي عميق تضمنه تحليل ماركس. إنه سجين الميزانيات العمومية ومبالغ الميراث بشكل سطحي. منهج بيكيتي كمي. منوم مغناطيسيا بالأرقام، بالكاد يبحث مسألة كيفية اختلاف أشكال معينة من الثروة في الفترات التاريخية.
ويكيليكس الاقتصادي
وجد بيكيتي أن الخضوع يشكل عقبة أمام خططه السياسية، فعلى الرغم من أفضل الجهود التي بذلها جيرمي كوربين وبيرني ساندرز يستمر انخفاض مستوى التنظيم النقابي في البلدان الرأسمالية المتطورة. وتؤدي جولة جديدة من اليسر الكمي كمحفز لعدم المساواة. وفي ظل هذه الظروف، يخاطر بيكيتي بأن يصبح مكافئا سياسيا لويكيليكس.
لقد كشف ويكيليكس بجرأة عن الجرائم التي ارتكبتها الحكومات في جميع أنحاء العالم: المراقبة الجماعية، والقتل والحروب غير المشروعة. لكن التأثير العام للكشف كان ضئيلاً، فبدون سلطة اجتماعية ذات مصداقية - يمكنها أن تشكك في الوضع الراهن - فإن الإبلاغ عن المخالفات وحده لا يكفي لإخراج الناس من حالة الرضا عن النفس. وبالتأكيد ان الواقع سيء. ولكن ما فائدة هذه المعرفة إذا لم نجد طريقة لتغيير الظروف؟
في العقد الفائت، شهدنا انفجارا في أبحاث عدم المساواة التجريبية - مدفوعة جزئيا بثورة بيانات في الاقتصاد القياسي والأرشيفات الرقمية بشكل متزايد. واستخدمت الحركات السياسية التي تتحدى هذه التفاوتات بيانات بيكيتي كسلاح فكري. لكن بدون استراتيجية عملية وبدون وزن تنظيمي، تكافح هذه الحركات عبثا للحصول على الدعم الضروري الواسع بين السكان لإحداث التغيير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باختصار.. عن الموقع الالماني لمجلة Jacobin الامريكية
** أنطون جاغر: طالب دكتوراه في جامعة كامبريدج يدرس تاريخ الشعبوية في الولايات المتحدة.رودومينيك لوسدر: خبير اقتصادي ومؤلف، وطالب دكتوراه في كلية لندن للاقتصاد.