السمة البنيوية الأخرى من سمات النيوليبرالية كناية عن مكافأة رأس المال على حساب العمل وبالتالي نقل الثروة من أسفل المجتمع إلى أعلى. فإذا كنت في خانة الـ٢٠ في المائة الأعلى من سلّم المداخيل، فأنت قابل لأن تكسب من النيوليبرالية، وكلّما ارتقيت في السلّم زاد كسبك. وعكسا، فجميع من هم في خانة الـ ٨٠ في المئة الأسفل يخسرون جميعا، وكلما انخفض موقعهم من السلّم زادت خسارتهم بنفس النسبة.

إذا كنتم تظنون أني نسيت رونالد ريغان، فدعوني أمثل على هذه النقطة بملاحظات كيفن فيليبس، المحلل الجمهوري والمساعد السابق للرئيس نيكسون، الذي نشر عام ١٩٩٠ كتابا بعنوان «سياسات الأغنياء والفقراء». وهو الكتاب الذي فتح الطريق أمام عقيدة ريغان النيوليبرالية وسياساته التي غيّرت توزيع الدخل في الولايات المتحدة بين الأعوام ١٩٧٧ و١٩٨٩. تبلورت تلك السياسات عموما في «هيريتايج فاونديشن» (مؤسسة التراث)، أبرز مركز أبحاث في عهد ريغان والتي  ماتزال ذات قوة يعتد بها في السياسة الأميركية. على امتداد عقد الثمانينيات من القرن الماضي، زاد الدخل العائلي المتوسط لأعلى ١٠ في المئة من العائلات الأميركية بنسبة ١٦ في المئة، والـ٥ في المئة الأعلى بنسبة ٢٣ في المئة. لكن الأوفر حظا كانوا الواحد بالمئة من العائلات الأميركية الذين أمكنهم شكر ريغان على زيادةٍ قدرها ٥٠ في المئة. فقد قفز متوسط مداخيلهم المرتفعة أصلاً، وهو ٢٧٠ ألف دولار، إلى ذروة تبلغ ٤٠٥ آلاف دولار سنويا. أما الأميركيون الأفقر فقد خسروا جميعا، وكلما كانوا أكثر انخفاضا في درجات السلّم كانت خسائرهم أكبر. فبحسب إحصائيات فيليب نفسه، خسر الـ١٠ في المئة من الأميركيين في أسفل السلّم ١٥ في المئة من مداخيلهم الشحيحة أصلاً التي انخفضت من متوسط منخفض جدا قدره ٤،١١٣ دولارا سنويا إلى متوسط غير إنساني قدره ٣،٥٠٤ دولارات سنويا. في العام ١٩٧٧، كان متوسط دخل الواحد بالمئة من العائلات الأميركية أكبر بـ ٦٥ ضعفا من دخل الـ١٠ في المئة في أسفل السلّم. وبعد عقد من الزمن، صار أعضاء فئة الواحد بالمئة أغنى بنسبة ١١٥ ضعفا قياسا إلى العشرة بالمئة في أسفل السلّم.

إن الولايات المتحدة هي المجتمع صاحب أعلى نسبة من اللامساواة على الأرض. لكن جميع البلدان عمليا شهدت تفاقم الفروق الاجتماعية على امتداد السنوات العشرين الأخيرة بسبب السياسات النيوليبرالية. نشر “مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية” UNCTAD بعض الأدلة الاتهامية في هذا الصدد في «تقرير التجارة والتنمية» لعام ١٩٩٧ المبني على ٢٦٠٠ بحث منفصل عن أشكال اللامساواة في المداخيل، والإفقار وتجويف الطبقات المتوسطة. إن فريق «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية» قد وثّق تلك التيارات في عشرات من المجتمعات المختلفة كليا في ما بينها، بما فيها الصين وروسيا وغيرهما من البلدان الاشتراكية السابقة.

لا يوجد أمر ملغز في هذا الاتجاه نحو المزيد من اللامساواة. وترسم السياسات الخاصة التي توفر لأصحاب الثروات دخلا وفيرا يتأمن خصوصا من خلال الاقتطاعات الضريبية وتخفيض الأجور. إن النظرية والتبرير الأيديولوجي لمثل تلك الإجراءات هو أن المداخيل والأرباح المرتفعة للأغنياء ستؤدي إلى المزيد من الاستثمار، وإلى المزيد من توزيع أفضل للموارد وبالتالي المزيد من الوظائف والرفاه للجميع. في الواقع، وكما كان متوقعا تماما، إن نقل المال عبر السلّم الاقتصادي قد أدى إلى فقاعات في البورصات وإلى الثروة الورقية الخفية للقلة والأزمات المالية. إذا ما أعيد توزيع المداخيل لفائدة الـ٨٠ في المئة من الذين في أسفل المجتمع فسوف يستخدم لغرض الاستهلاك وبالتالي يفيد في خلق الوظائف. أما إذا أعيد توزيعها باتجاه الأعلى، حيث يملك الأفراد معظم ما يحتاجون إليه، فلن تدخل تلك الأموال إلى الاقتصاد المحلي أو الوطني وإنما ستتجه نحو البورصات الدولية.

وكما نعلم جميعا، فإن السياسات ذاتها قد طُبّقت على امتداد الجنوب والشرق بحجة التعديل الهيكلي الذي هو الاسم الآخر للنيوليبرالية. لقد استخدمتُ ثاتشر وريغان للتمثيل على سياسات وطنية. أما على الصعيد الدولي، فقد ركز النيوليبراليون كل جهودهم على ثلاث نقاط أساسية: حرية التجارة في السلع والخدمات وحرية حركة رأس المال وحرية الاستثمار.

على امتداد العشرين سنة الأخيرة، كان صندوق النقد الدولي يعزز قدراته على نحو كبير. بفضل أزمة المديونية وآليات المشروطية، انتقل من دعم ميزان المدفوعات إلى أن يصير أشبه بالدكتاتور الكوني لما يسمى السياسات الاقتصادية «الرشيدة»، أي السياسات الاقتصادية النيوليبرالية. ثم أنشئت «منظمة التجارة العالمية» أخيرا في كانون الثاني ١٩٩٥ بعد مفاوضات طويلة ومضنية وغالبا ما جرى تمريرها في برلمانات لم يكن يدري أعضاؤها الكثير عما قرروه. ولحسن الحظ، فإن الجهد الأخير لرسم قواعد نيوليبرالية كونية وملزمة، على شكل «اتفاق الاستثمار متعدد الأطراف»، قد فشل، مؤقتا على الأقل. وكان مقدرا له أن يمنح كل الحقوق لكبريات الشركات ويلقي كل الواجبات على الحكومات ويحرم المواطنين من كل الحقوق.

القاسم المشترك بين هذه المؤسسات هو انعدام الشفافية وعدم الخضوع للمساءلة الديموقراطية. هذا هو جوهر النيوليبرالية: تزعم أن الاقتصاد يتعين عليه أن يملي قوانينه على المجتمع، وليس العكس. فالديموقراطية مربكة، ذلك أن النيوليبرالية معدّة للرابحين لا للناخبين الذين يضمون فئتي الخاسرين والرابحين.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* عالمة اجتماع وسياسة ومناضلة أميركية

“بدايات” (فصلية ثقافية فكرية) – العدد 30 – 2021

عرض مقالات: