ولد فريدريك إنجلز في عائلة مزدهرة تمتلك طاحونة في مدينة بارمن الألمانية في عام 1820. وكانت نشأته خالية من الهموم والمتاعب، إلا أنه عند بلوغه سن الرشد بدأ برفض العقلية الدينية البروتستانتية المتزمتة لوالديه. في أواخر ثلاثينيات القرن التاسع عشر غادر الى برلين لإداء خدمته العسكرية الإجبارية. وقد وفرت له إقامته في برلين فرصة الاستماع الى العديد من المحاضرات التي كانت تلقى في جامعة برلين، والتعرف أيضا على الهيغليين الشباب.
أرسله والده فيما بعد للعمل كمدير في مصنع المنسوجات العائلية في مانشستر، إنكلترا. لكن إنجلز خيب مخططات والده بعد وقوعه في حب فتاة ثورية إيرلندية تدعى ماري بيرنز، كانت تعمل في المصنع، وانغماسه في حركة الطبقة العاملة، وفي جمع ثروة من البيانات من داخل المصنع من أجل كشف أسرار الاستغلال الرأسمالي.
قضى انجلز 21 شهرا في مانشستر، وكانت الحصيلة كتابة أهم أعماله، وأقصد تحديدا (حالة الطبقة العاملة في إنكلترا). تكمن أهمية
هذا الكتاب في إدانته القوية لظروف الحياة التي تفرضها الرأسمالية اعتمادا على شهادات حية من داخلها، من بطن الوحش. كما إنه يمثل أيضا عملا نظريا رائدا يوضح أن إنجلز كان شريكا فعالا في تطوير الماركسية.
كتب ماركس في (العائلة المقدسة): «لا يهم ان نعرف الهدف الذي يتصوره مؤقتا هذا البروليتاري أو ذاك، أو حتى البروليتاريا بأكملها. بل المهم معرفة ما هي البروليتاريا، وما الذي ستكون مضطرة تاريخيا ان تفعله طبقا لهذا الكيان». وهو بلا شك تصريح جريء، لكنه لم يكن مبنيا على معرفة مباشرة بالرأسمالية الصناعية. ففي ذلك الوقت، لم يكن ماركس، الذي يعيش في باريس، قد أمسك بتفاصيل «ما هي البروليتاريا»، في حين واجه إنجلز الشيء الحقيقي وجها لوجه في مانشستر.
كيف تعمل الرأسمالية
يصر إنجلز على ضرورة عدم اكتفاء الاشتراكيين بالتخمينات المجردة. فيكتب «إن معرفة ظروف البروليتاريا ضرورية للغاية للتمكن من توفير أرضية صلبة للنظريات الاشتراكية». لذلك، نجده يبدأ مقدمته بسرد سريع للتغييرات الجذرية التي أحدثتها الرأسمالية في إنكلترا:
«يبدأ تاريخ البروليتاريا في إنكلترا في النصف الثاني من القرن الماضي [القرن الثامن عشر]، مع اختراع المحرك البخاري والآلات التي تتعامل مع القطن. لقد أدت تلك الاختراعات، كما هو معروف، إلى إحداث ثورة صناعية».
بيد ان هذه الثورة أدت أيضا الى تدمير نمط الحياة الريفية والزراعية. لقد جذبت مئات الآلاف من الفقراء الأيرلنديين إلى المدن البريطانية، وجعلت المملكة المتحدة القوة الاقتصادية البارزة في العالم. أي ان الآلات والقوة البخارية والقطن هي التي خلقت البروليتاريا.
ولكي يحدد انجلز لنا من المسؤول عن هذا التحول، فانه يلخص ذلك في عنوان فصل من كلمة واحدة، «المنافسة»: «المنافسة هي أكمل تعبير عن معركة الكل ضد الكل، وهي من يتحكم بالمجتمع المدني الحديث. هذه المعركة، معركة من أجل الحياة، من أجل الوجود، من أجل كل شيء... لم تخض طبقات المجتمع المختلفة غمارها فقط، بل أفراد هذه الطبقات أيضا».
وفي حين كان آدم سميث يرى ان هذه العملية تزيد من «ثروة الأمم»، برغم انه شجب بعض عواقبها الاجتماعية، فإن إنجلز - قبل ماركس - يقدم لنا تفسيرا متطورا للسبب في أن المنافسة الرأسمالية قد تؤدي إلى ثروات كبيرة ولكن سينتج عنها أزمات وانهيارات عميقة في ذات الوقت. فبعد ان يطرح علينا قراءاته التفصيلية في الاقتصاد السياسي وخبرته في مكتب مدير المصنع، يوضح لنا إنجلز العلاقة بين الأجور كسلع والبطالة من ناحية، ومنافسة السوق الحرة والأزمات التجارية الدورية من ناحية أخرى:
«في الإنتاج والتوزيع غير المنظمين الحاليين لوسائل العيش، التي لا تتم من أجل توفير الاحتياجات، بل من أجل الربح، في النظام الذي يعمل فيه كل فرد لنفسه، لإثراء نفسه، فإن من المحتم ان تنشأ اضطرابات في كل لحظة... كل شيء يتم بشكل أعمى، كتخمين، تحت رحمة الصدف بشكل أو بآخر ... وستتكرر الأزمة عادة مرة كل خمس سنوات بعد فترة قصيرة من النشاط والازدهار العام».
فما عاقبة كل هذا؟ في فصل مرعب بعنوان «المدن الكبرى» يعرض إنجلز تفاصيل الظروف القاتمة التي تغذي إمبراطورية بريطانيا. دعونا نشير هنا الى إننا نشهد اليوم، وجود العديد من العواصم العملاقة. ولكن في أيام إنجلز، لم يكن هناك شيء مثل إنكلترا الصناعية على هذا الكوكب. كان عدد سكان لندن البالغ 2.5 مليون نسمة أكبر من ضعف عدد سكان باريس، وثماني مرات أكبر من برلين ومدينة نيويورك و12 مرة أكبر من روما. لهذا نجده يصف، وهو القادم من برلين، صدمته في مواجهة هذا الوحش العملاق لأول مرة:
«هذا التمركز الهائل، الذي يجمع بين مليونين ونصف مليون من البشر في مكان واحد، قد ضاعف من قوتهم مئات المرات؛ لقد رفع لندن لتغدو عاصمة العالم التجارية ... كل هذا ضخم للغاية، ومثير للإعجاب لدرجة أن الإنسان لا يستطيع تجميع نفسه، انه يضيع في أعجوبة عظمة إنكلترا».
ولابد من التأكيد هنا إن انجلز هو أول من نادى بأن الاشتراكية، إذا كان لها أن تعني أي شيء، يجب عليها أن تترك وراءها الخلافات الأكاديمية حول الفلسفة والدين، وأن تجد طريقها للتجذر في هذا العالم الجديد.