التجربة الشعرية للشاعر عبد السادة البصري تجاوزت الثلاثين عاماً ومازال الشاعر وفيا للبسيط من القول الشعري الذي يسعى لتعميقه وتوسيع مدياته.. تتوقف قراءتي عند تقنية التذكر الشعري للوجوه والأمكنة والأزمنة التي عايشها الشاعر..

في ص47 يقول الشاعر( ونسمي الطقس بأسماء سكنت ذاكرتنا) ( يا لذاكرتنا كم من الأسماء والأحداث خزنت) ومن هذا الخزين الممول من ذاكرة أشد رسوخا هي الذاكرة الجمعية المتجسدة في ذاكرة الأم

والقصيدة من صوتين : صوت الواحد الذي ينوب عن الجماعة

(عندما كنّا...

  نستحم بماء أجسادنا

من شدة الحرّ)

يلي ذلك صوت الواحدة/ الأم :

(تقول أمي :

 لا عليكم... إنها ( مرطبانة الخَلال)

ثم يستعيد صوت الواحد مكانه في القصيدة، يبث علينا حالة الطقس

بعدها يمنحنا تعريفاً وجيزاً عنه بصيغة الجماعة (نحن أبناء الفلاحين) ويضيف قائلاً (نقضي اليوم (مقيلين) في النهر) لنرطّب أجسادنا، ثم يعود صوت الأم للظهور(لحظتها... توبّخنا أمي قائلة: أتهربون من (عصّارة التمر) وهكذا تكون حياة الفتيان بين قوسيّ (الترطيب والعصر تمرّنت أجسادنا)..  وهناك الوعد المؤجل في قصيدة (انتظار) :

(كم من السنين خَلَت ْ

  وهو يوعدها برسمِ

لوحة ِ فرحة ٍ على وجهها

وجهها الذي رسمت ْ عليه

  الهمومُ شجرة ً

كثيفة ومتشابكة الأغصان والجذور)

هنا في هذا القول الشعري: المرأة ُ عاطلة ٌ عن تفعيل فرحها، تنتظر سواها يجلب فرحاً لها وتضع فيه ثقتها المطلقة وهو ليس أهلا لذلك

(وكم كانت خيبتُها كبيرة ً...

بعد أن اكتشفت ْ زيفه...

 ونكرانه لها...؟)

الفعل الشعري هنا كاد يكون حكاية شعرية قصيرة.. في قصيدة (خواء) وهي تتجاور طباعيا مع القصيدة التي تليها وهي (انتظار)

قصيدة(خواء) حكاية شعرية عن الحب الخائب والضحية هنا هي المرأة وهي ضحيةٌ بقيمة مزدوجة : هي ضحية الحب وضحية الفتى الطائش 

(الشوارعُ تبكي الصحبة َ

 الدكاكين غافية

لم تبلغ من دنياها...

غير لحظة ِ فرح ٍ فقط

وبعدها ليكن ما يكون

همها الوحيد لقاؤه. ذلك الساكن القلب

منذ الصبا.

والأمل الذي

ظللت حالمة فيه سبعين شتاءً

حاملة ً صورته...

تلك التي توسدتها  ليال ٍ طوال

بعد ليلة ٍ حمراء عاشتها في الحلم

تملكها شعور ٌ آخر

لم يوقفها الحًجْرْ عن الخروج إلى الشارع

فارشة ذراعيها جناحي فرحٍ...

لكن نزيف الدم... أوقف

كل أحاسيسها

بعد أن صدمتها سيارة ٌ

كان يقودها فتى لم يبلغ الحلم بعد !!!

يا لأحلامنا المهاجرة كسربِ طيورٍ أضاع المكان).. (بعد ليلة ٍ حمراء عاشتها في الحلم) ( فتى لم يبلغ الحلم).. حين نتأمل في هذين السطرين الشعرين المقوسين نفهم الحكاية الشعرية تقريبا

(*)

في قصيدة (صورة) يستعمل الفوتوغراف ويحوّله الشاعر من الثابت إلى متحرك والمتحرك هو لا قول الشاعر بل قول الشخص الذي في الصورة فهذا الشخص :

(يتحدث عن

  مظلومية العمالِ

وحقوقهم المهدورة

وأتعابهم المغتصبة !!!)

ثم يكون التواصل بين البشري والطبيعة :

(الرجل يتحدث

  والأفق يحمر.. ويحمر.. ويحمر

أحمرّ الأفق... وأسوّد

ثم انفجرت كّل براكين الغيض

وأمطرت السماء دماً...

سال َ بكل شوارع بصرتنا

ليكتب اسم النقابي الشهيد

هندال جادر!!!)

,يختم الشاعر البصري قصيدته بتلك الأهزوجة العمالية التاريخية التي عاصرها المناضل الكادح هندال  في أحدى تلك الاضرابات العمالية، التي أدت إلى سجنه ومطالبة العمال السلطات الملكية بإطلاق سراحه، وقبل نهاية المجموعة الشعرية( لا.. كما نريد) هناك صورة أخرى يستعيدها الشاعر هي صورة أقرب الناس إلى قلبه (في الذكرى 22 لرحيلها...أمي) وإذا سألناه كيف تراها الآن أيها الشاعر سيجيبنا

(إنها صنعتني

من عسل الطيبة

 و(دافتني) كحنّاء الجنوب

مع (الغرين)

  تاركة للأيام صنيعتها

وعلّقت (تميمة) عشقها

  للأرض

أيقونة في جيدي)

في قصيدة (انتظار) كنّا مع شعرية الفرشاة. وفي قصيدة( الخطوة الأولى) استعمل الفرشاة للقصيدة

(وأنا أخطو أولى خطواتي

  في الكتابة...

رسمت ُ على حائط بيتنا

نهراً وشجرتين وعصفوراً)

يبدو أن هذا الرسم تنتظره ممحاة لا يعرفها الرّسام، فهو بِلا تجارب مع الدنيا. آنذاك والذي له تجارب في هذا المضمار هو الأب حين يخاطب ولده ُ

(حاسبني أبي بشدة ٍ قائلا :

حينما تريد الكتابة والرسم

فأبدأ على الورق

وأحفرها بإزميل المحبة

  في القلوب...

لأنّ المطر يغسلُ الحيطان

 وتهترئ الأوراق

فيضيعُ جهدك

ويتلاشى إبداع ).. هنا اكتملت قصيدة الشاعر، وما بعدها فائض

قصيدة (كلّ صباح) وقصيدة ( الجنوب) قصيدتان تنضحان بالتفاؤل الملوّن بأقواس قزح

(*)

قصائد (الأنا) متوفرة في دواوين الشاعر عبد السادة البصري وتستحق وقفة تأمل، وكأن هذه القصائد بديلا عن كتابة السيرة الذاتية. و(أنا) الشاعر تختلف عن (الأنا) في السرد الروائي. تبدأ رواية نجيب محفوظ (السراب) بضمير (الأنا) لكن هذه (الأنا) لا تحيلني كقارئ إلى أن المتكلم نجيب محفوظ بل إلى شخصية كامل رؤبة لاظ : الشخصية الرئيسة في الرواية. إذن  ضمير المتكلم (الأنا) روائيا يمكن أن يكون السارد المشارك بصناعة الحدث الروائي. وأحيانا يكون بمثابة خطاب الذات لذاتها (منولوج) ولكن في كل الأحوال ضمير (الأنا) في الرواية ليس مؤلف الرواية كما يتصور القارئ العادي. خلافا لذلك بالنسبة للشعر ومن تعايش مع الشاعر عبد السادة البصري وأنا من العارفين بأحوال صديقي الحميم من خلال علاقتي معه منذ أوائل تسعينات القرن الماضي.. وهذه الأنا صورة طبق الأصل عن معاناته في الحياة اليومية

(*)

 أن ثريا المجموعة الشعرية ( لا.. كما نريد) مشتقة من المهيمنة الشعرية في الديوان وجزئيات هذه الثريا شاخصة في عناوين القصائد : (ساهم)(خواء) (ندم)(بؤس)(سيناريو) (خسارة) (مواطن بالإيجار) (رحيل)(في الذكرى 22 لرحيلها... أمي) (تداعيات) (كيف بكَ...؟) (هؤلاء.. وأولئك) (كل ليلة) هذه العناوين تحتوي نصوص الألم وعدم التمكين والحرمان الطبقي.. غياب الأمان وانعدام السبل...لكن التناول الشعري يبث طاقات ٍ موجبةً أثناء قراءة المجموعة الشعرية ويزيدنا إصرارنا وعزيمة ً في المضي، نحو الأجمل الذي نسعى إليه.

عبد السادة البصري/ لا.. كما نريد/ ط1/ 2021/ دمشق/  دار أمل الجديدة

عرض مقالات: