بالتأكيد، كان مستشارو رجال الأعمال والمصرفيين أول من روّج لحلم الطبقة الوسطى. في العام ٢٠٠٧، توقع ماكنزي أن المستهلكين من أبناء الطبقة الوسطى سوف يزيد عددهم عن خمسين مليونا إلى ٥٨٣ ملايين بحلول العام ٢٠٢٥. في العام التالي، توقع غولدمان ساشس تقلص اللامساواة على الصعيد الكوني بفضل «انفجار الطبقة الوسطى العالمية». (1) وأثنت «إيكونومست» على هذا التبجح بادعائها وجود «ملياري برجوازي إضافي».

ظهرت أول نظرة عددية شاملة للطبقة الوسطى «المنتفخة» في كانون الثاني ٢٠٠٩، بقلم الخبير الاقتصادي في البنك الدولي مارتن راڤاليون الذي دافع عن تعريف لـ«الطبقة الوسطى» على أنها تضم الذين يعيش الواحد منهم على مبلغ يراوح بين دولارين و١٣ دولارا في اليوم، وقد اختير الخط الأعلى على أنه يوازي تقريبًا خط الفقر الأميركي لعام ٢٠٠٥ بناء على معدلات القدرة الشرائية – بعبارة أخرى، كانت «البرجوازية» الصاعدة تعادل المستوى الاقتصادي للفقراء الأميركيين. بناء على تقديرات راڤاليون، انتفخت الطبقة الوسطى الكونية بما يزيد على ٨٠٠ مليون نسمة بين ١٩٩٠ و٢٠٠٥.

عند إلقاء نظرة أدق، يتبين أن ٦٢٢ مليونا من أبناء تلك الطبقة الوسطى كانوا في «شرق آسيا النامية»، أي أنهم في الصين. ولكن إذا كانت الطبقة الوسطى الصينية التي ينفق الفرد منها بين دولارين و١٣ دولارا في اليوم قد «انفجرت» من ١٥ في المائة إلى ٦٢ في المائة من السكان، فإن التغيرات المشهودة في مناطق أخرى من العالم كانت متواضعة بالمقارنة.

في جنوب آسيا، ارتفع عدد الذين ينفقون بين دولارين و١٣ دولارا في اليوم من ١٧ في المائة إلى ٢٦ في المائة من عدد السكان؛ وفي أفريقيا، من  في المائة٢٣ إلى ٢٦ في المائة مع أنه في كل حالة من الحالات، كان «الانتفاخ» مركزا بالدرجة الأولى لدى ما يزيد قليلاً على الذين ينفقون دولارين في اليوم. في تلك الأثناء، كانت الطبقات الوسطى في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى قد تراجعت من ٧٦ إلى ٧٣ في المائة من السكان. (2)

إذا نظرنا من خلال عدسة ٢ - ١٣ دولارا الضيقة، يبدو نمو «الطبقة الوسطى» الآسيوية في تسعينيات القرن العشرين وفي القرن الحادي والعشرين مؤثرا بالتأكيد، ما استدعى طوفانا من الكتابات الاحتفالية. وأبرز مساهمة في ذاك الاتجاه تقرير أصدره «بنك آسيا للتنمية» العام ٢٠١٠ بعنوان «صعود الطبقة الوسطى الآسيوي» وهو هيئة إقليمية مركزها مانيلا. صدر التقرير خلال ذروة الركود الذي سببه الانهيار المالي في بلدان الشمال الأطلسي العام ٢٠٠٨، وتنبأ البيان الصحافي الذي أصدره المصرف بأن «الطبقة الوسطى الآسيوية سريعة التوسع ويقدّر لها أن تضطلع بالدور التقليدي الذي لعبته الولايات المتحدة وأوروبا بما هي المستهلك الكوني الأول فتساعد على إعادة التوازن للاقتصاد الكوني». وادعى التقرير أن المستهلكين الآسيويين سوف ينفقون ٤٣ في المائة من الاستهلاك العالمي بمجيء العام ٢٠٣٠ (3) ويمكن أن يُقرأ بين السطور أن الطبقة الوسطى الآسيوية قابلة لأن تنقذ العالم، أو أن تنقذ الاقتصاد الرأسمالي العالمي، على الأقل. فبناء على تقرير «مصرف التنمية الآسيوي»، زاد عدد أفراد الطبقة الوسطى في «آسيا النامية» – أي باستثناء اليابان – من ٥٦٩ مليونا إلى ١،٩ مليار بين ١٩٩٠ و٢٠٠٨، أو من ٢١ في المائة إلى ٥٦ في المائة من السكان. وكان تعريف الطبقة حينها بأنها الطبقة التي ينفق الفرد منها بين دولارين و٢٠ دولارا في اليوم، وقد وضع الخط الأعلى بما يقارب خط الفقر في إيطاليا. أما الفقراء، أي الذين ينفق واحدهم أقل من دولارين في اليوم، فقد تقلصوا بالتوازي من ٧٩ في المائة إلى ٤٣ في المائة من السكان. تركز معظم ذاك التحّل، ولكن ليس كله، في الصين، ذلك أن الطبقة الوسطى قد توسعت من ٢٩ في المائة إلى ٣٨  في المائة من السكان بين ١٩٩٣ و٢٠٠٥. كانت هذه الأرقام مبنية على مسوح ولكنها لم تكن متينة تماما. فالحسابات المبنية على الأرصدة الوطنية تعطي صورة مختلفة نوعا ما ولكنها لا تعدل في الاتجاه اللافت، فقد تقلصت نسبة الفقراء من ٦٩ في المائة إلى ١٧ في المائة على امتداد آسيا النامية وازدادت نسبة أفراد «الطبقة الوسطى» من ٣١ في المائة إلى ٨٢ في المائة من السكان. (4)

على أن الافتتان بالطبقة الوسطى الآسيوية لم ينتج منه أي اتفاق على حجمها الفعلي. توصلت شركة تداول أسهم صينية منذ بضع سنوات إلى تقديرات أكاديمية عن الطبقة الوسطى في جمهورية الصين الشعبية تتراوح بين ٤ في المائة و٣٣ في المائة من السكان، وهو أقل بكثير من التقدير المتبجح لـ«مصرف التنمية الآسيوي» الذي يتحدث عن ٨٩ في المائة. (5) أما «الطبقة الوسطى» الهندية، فقد تتضمن أي نسبة تتراوح بين ١٠ و٦٤ في المائة من السكان. وقد وجدت دراسة أخيرة أن ٥٠ في المائة من السكان ينتمون إلى فئة الذين ينفقون بين اثنين وعشرة دولارات يوميا. وما يثير الاهتمام أنها تضع موعد «صعود» الطبقة الوسطى بعد عقد من الزمن من الموعد الذي يحدده «مصرف التنمية الآسيوي»، ليس في تسعينيات القرن الماضي وإنما في الفترة الممتدة بين ٢٠٠٤ و٢٠١٢. أما حصة الأسد من ذلك الصعود فقد نُسبت إلى السكان الذين انتقل الفرد فيهم من إنفاق دولارين إلى ما بين دولارين وستة دولارات يوميا. (6)  والواقع أن النقاش الأكثر إثارة في آسيا عن الطبقة الوسطى الجديدة هو الذي يجري في الهند، حيث يناقش جمهور متفاوت من المثقفين لا حجمَ الطبقة الوسطى ونموها وحسب، إنما أيضا دلالتها الاجتماعية والسياسية، بالقياس إلى المشروع الوطني السياسي لـ«تغيير الهند». ترى ليلا فيرناندز أن الطبقة الوسطى تمثل «البناء السياسي لفئة اجتماعية تعمل بما هي داعية اللبرلة الاقتصادية». أما بالنسبة إلى ديبانكار غوپتا، في المقابل، فيبدو مصطلح «طبقة وسطى» على أنه مصطلح «هزيل» في الهند تحديدا لأنه يفتقر إلى أي مشروع يرتبط به: والتعويض «ترمى علينا بيانات عن الاستهلاك». (7)

أما السؤال الذي طرحه «مصرف التنمية الآسيوي» لعام ٢٠١٠ عن مدى قدرة المستهلكين الآسيويين من أبناء الطبقة الوسطى الجديدة على تعويض قصور النمو في قدرة الطبقة الوسطى الأميركية على الإنفاق — فقد أثاره الخبير الاقتصادي هومي خاراس العامل في البنك الدولي ومؤسسة «بروكينغز». استخدم خاراس تعريفا لاستهلاك الطبقة الوسطى أشمل عبورا للقارات على أنه بين ١٠ و١٠٠ دولار في اليوم، إذ تخلى فيه عن التوصيفات الطبقية المتعلقة بالديموقراطية وريادة الأعمال أو تلك التي «تسهم في تنمية رأس المال البشري» — أي أنه تخلى عن كامل سلسلة المميزات التقليدية للطبقة الوسطى — ليؤكد بديلاً منها على «ما يجعل الطبقة الوسطى تركز على الاستهلاك بنوع خاص». فتوقع ارتقاء الطبقة الوسطى الكونية من ١،٨ مليار عام ٢٠٠٩ إلى ٣،٩ مليارات بحلول العام ٢٠٣٠ فيما الاقتصاد العالمي يبدأ بالتمحور حول آسيا، التي قُدّر أنها مسؤولة عن ٨٥ في المائة من الزيادة، مدفوعة بنوع خاص بالطبقات الوسطى الهندية والصينية.(8) وإن صعود السوق الاستهلاكي الآسيوي الضخم هو بالتأكيد جزء من تحور جارٍ في الاقتصاد الكوني. على أن «طبقة وسطى» و«فقر» ليسا دالّين بلا مرجعية يمكن تسخيرهما عشوائيا لخدمة أي غرض، فقد لفت جون ويست، الخبير الاقتصادي الذي يتخذ طوكيو مركزا له، إلى التشوهات الناجمة عن النقل الواعي أو غير الواعي للدلالات الغربية التاريخية لما يشكل موقع «الطبقة الوسطى» إلى الأمم الشرقية المعاصرة، ما يؤدي إلى ما يسميه «مجتمع الطبقة الوسطى الآسيوية خرافة». (9)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

هوامش

1.Eric Beinhocker et al., ‘Tracking the Growing of India’s Middle Class’, McKinsey Quarterly, no. 3, January 2007; Dominic Wilson and Raluca Dragusanu, ‘The Expanding Middle: The Exploding World Middle Class and Falling Global Inequality’, Goldman Sachs Global Economic Paper, no. 170, 2008.

2.Martin Ravallion, ‘The Developing World’s Bulging (but Vulnerable) “Middle Class”’, World Bank Working Paper no. 4816, 2009, Table 3 and p. 17.

3.Asian Development Bank, ‘The Rise of Asia’s Middle Class’, in Key Indicators for Asia and the Pacific 2010, August 2010, part 1.

4.Asian Development Bank, Key Indicators for Asia and the Pacific 2010, Tables 2.1, 2.6 and 2.2.

5Li, The Rising Middle Classes and China, Table 1.

6.Sandhya Krishnan and Neeraj Hatekar, ‘Rise of the New Middle Class in India and Its Changing Structure’, Economic and Political Weekly, 2 June 2017, esp. Figure 1a, Table 2. The low (‘scheduled’) castes experienced an uplift, while the relative advantage of Hindus over Muslims remained about the same (Table 3).

7.Leela Fernandes, India’s New Middle Class, Minneapolis 2006, p. xviii; Dipankar Gupta, The Caged Phoenix: Can India Fly?, New Delhi 2009, p. 83

8.Homi Kharas, ‘The Emerging Middle Classes in Developing Countries’, oecd Development Centre Working Paper 285, 2010, pp. 10–11, 38.

  1. John West, Asian Century on a Knife-edge, London 2018

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أستاذ علم اجتماع سويدي، يدرّس في جامعة كمبريدج، إنكلترا. له عدة مؤلفات عن البنية الطبقية للمجتمع ووظائف أجهزة الدولة والأيديولوجيا ومابعد الماركسية.

مجلة «بدايات» – العدد 35 – 2022

عرض مقالات: