أكاد أجزم أن عنوان مقالي أعلاه ليس جديدا ولاغريبا على سادتي القراء، فجميعهم مرت عليهم تكملة المثل، تلك هي الحمى، وبعضهم وصل بهم السقم حد الموت، غير أن أجلهم لم يكن قد حان بعد. ولست بمبالغ إن قلت أني قبل شهور قليلة كنت من الأخيرين، وتوسدت فراش الموت -لاالمرض- منتظرا قدومه حيث الراحة الأبدية، والخلاص من مفاجآت الدنيا غير المرغوبة، والتحرر من متاعب الحياة التي يصنعها نظراؤنا في الخلق، ولاسيما تلك التي يطبخونها في أروقة مؤسسات بلدي الكبرى، وتأثيرها علي وعلى باقي العراقيين سلبا.

  مالاشك فيه أن العراقيين جميعا يعانون المعاناة ذاتها، على أيدي جلاديهم في السلطات الأربع، والتي أقر الدستور العراقي فردانية كل منها واستقلالها عن الأخرى، ولسوء حظ العراقيين فإن الدستور قد شُرع على عجالة -كما يدعون- لخدمة واضعيه ومشرعيه على حساب المواطن، وواضعوه يلقون باللائمة على عقارب الساعة، وليس على عقاربهم وأفاعيهم التي ما انفكت تلسع وتلدغ، نافثة سمومها في عروق المواطن المسكين، يقول شاعر الأبوذية:

أريد الطم بدال القاط قاطين

على الباگ الخزينة ولبس قاطين

ها يالگلت اسوي البيت قاطين

شجاك وهدمت كوخي علي

  هذا هو ديدن حكامنا الذين يتناوبون على إدارة زمام أمور البلاد، وفي حقيقة الأمر هم لايديرونها، بل يقلبون عاليها سافلها، ومانلمسه منهم لا يتعدى أذية العباد والبلاد، بعد أن باعوا الإثنين بأبخس الأثمان. وإذا استعرضنا بطولاتهم في السرقات والتخريب المتعمد بأركان البلد، فإننا لن نبدأ بمشروع الحرير، ولن نتوقف عند مشروع صحراء السماوة وماتحتها، فضلا عن حقول النفط المباعة والمباحة، والإقليم الذي مُنح على طبق من ذهب، مقابل منافع شخصية وفئوية، وما خفي كان أعظم وأدهى وأمر.

  يروى أن واليا من ولاة العراق جاءته هدية من أحد الملوك، وهي عبارة عن قطعة قماش نادرة ونفيسة، فأرسل الوالي إلى أشهر خياطي الولاية أمرا بالحضور، وطالبه بخياطتها بدلة له، فما كان من الخياط -بعد قياسها- إلا أن يعتذر عن تنفيذ الأمر، وكانت حجته أن القطعة صغيرة على جسد الوالي، وبعد حين أرسل الوالي إلى خياط ثان، فاستجاب الأخير إلى الأمر وأكمل خياطتها للوالي على أتم وجه. وذات يوم وبينما كان الوالي يتجول في سوق المدينة، شاهد طفلا يلبس ثوبا مخاطا من القماش ذاته، فاستوقفه الأمر وأرسل إلى الخياط مستفسرا عن كيفية حصول هذا، فأجاب الأخير أن جزءا من قطعة القماش قد فضلت، وهي تكفي لعمل بدلة لابنه الصغير، أما الخياط الأول فقد كان جسد ابنه أكبر، فأعاد القطعة برمتها إلى الوالي وأفسد عليه الجمل بماحمل.

  وهذا عين الشبه بآلية سرقات مسؤولينا، إذ هم يسرقون أكبر نسبة من المال، وإن لم تغطِ جشعهم فإنهم يرفضون البضاعة جملة وتفصيلا، ويتحمل المواطن الخسارة وحده كما حدث في شحنة التمن -على سبيل المثال لاالحصر-. ولم يفت أولي الحكم أن يطمئنوا المواطن بعبارات معسولة، ويوعدوه بأحلام شفافة لمستقبل مشرق، فيرونه الموت ليقتنع بالحمى نصيبا وقدرا محتوما، وهم بهذا يحاكون شاعر الدارمي في قوله:

إنت النطرت البيت وانت التبوگه

                  إتحطلي سم بگلاص وتگلي ضوگه

عرض مقالات: