ولم تزل تلك الريح محترقة بغلِّها، كما هو شأنها على مَرّ الزمان، فمنذ ثمانين ونيف تنهش ذلك الثوب المطرز بالكفاف، عندما كان الرفاق يوردون خيلهم من ترعة في ظاهر الناصرية، قبل أن يتنكب القروي قطعة من الجوت القديم حاملاً قالب الثلج في عز الظهيرة، ينقط البارد مغتسلًا بعرقه الطهور. والبلاط العاري من الأثاث يحتضن خطى الرفاق.

من هنا مروا. هنا افترشوا الجرائد، يقرأون ما تيسر من سيرة البهلول. هنا وضعوا صحون حسائهم على وقع ملاعق البهجة، ينثرون ضحكاتهم ويسخرون من سجّانهم ذي الشارب الكث والسحنة ـ الربّانيّة ـ، هنا توسدوا المجلات القديمة وناموا، مشرعين قلوبهم للحلم. فبيتهم ـ مو ـ من زجاج. وتلك الحجارة، مهما كان راميها، لن تأخذ سوى صدى النضال الحقّ، ذلك المُخبأ في مجارير المكاتب، كما الحمام على بيوضٍ ستفقس أذرعة ملوّحة وـ علوق ـ خضر للجافلين من وحشة الصحراء تهديهم.. إن هنا نحن كما كنا. تعالوا. لا تخافوا. ففي الصحن متّسع للقناعة وقطعة الخبز ما زالت مُدافة بضمخ العراق. تعالوا. أنزعوا الجزع القديم. تطهروا واجلسوا معنا على البلاط، تحت سقف الحزب. سينث على رؤوسكم فيئ الوثوق، واطمأنوا صدّقوني، لن تأخذ الريح شيئًا من بلاط السيرة العظمى ولن تجفل حمامات الرفاق.

هي سيرة الوطن الموشى بالأهلة والمناجل والوشوم الزرق والنخل الكريم وكراريس رأس المال وما ترك الشهداء من ذكريات.

هم؟ لم يقرأوا سيرة سلام. لم يصعدوا قطار الموت. لم يفقأ ناظم كزار عيون أحبتهم. لم يعرفوا اليتم أو الترعرع بين أحضان الكتب، من دون أب. لم يشهدوا الضيم يحني ظهر أمهم، وهي تعود من "الصفاة" محمّلة بسلّة السمك الرخيص، كي تديم أودهم ويمضوا للمدارس. لم يفهموا كيف يُبتكَر السؤال من السؤال "ماما.. أين أبي؟ متى يعود من الجنوب؟ هل حقًّا أتى ليلاً وقبّل جبهتي ومضى عائدًا نحو الجنوب؟ من يغطيني إذن؟ من يمسّد غرتي حتى أنام؟".

ماذا ستأخذ تلك الريح من بلاط البيت؟ سوى فزع الحمام واقتلاع الورد في ظل الفناء، وشظية هوجاء تجرح جذع تلك النخلة المتعالية غير عابئة بالخدش تنثر فيئها الحاني على وقع القصائد والأغاني والزغاريد الحميمة والحداء.

ماذا ستأخذ تلك الريح من البلاط؟ فهي تهبُّ مثيرة حقد السموم منذ أكثر من ثمانين ونيف.

والبلاط ـ ياما ـ قشّرته الريح وجلت النوائب معدنه الثمين.

ماذا ستأخذ منه وهو لا يملك سوى عباءته الجليلة يفترشها العراق؟

حتى النخلة الكبرى في فناء الدار وهي تحتضن الشظية تدرك مثلنا بأنّ الريح لن تأخذ شيئًا من بلاط الحزب، لكنّها حرصت على أن لا يفزع الصوت الحمام.

فـ" أش ش ش ش ش .. اكتموا الصوت ومسّدوا غرة الطفل ـ العراق حتّى ينام.

عرض مقالات: