يقدم الروائي طه الشبيب روايته (خِلوّ) ويمنحها مساحة نصية كبيرة تفترش عليها وجهات نظر متعددة ومفاهيم متداخلة وأحداثاً تختلط بسنواتها وأيامها، يتبنى طرحها ويملأ موائدها سردا رواة عديدون يمنحهم الروائي مقاليد الروي ويسلمنا نحن القراء مفاتيح الدخول للتعرف على كل شخصية وهي تعبر بطريقتها عن نفسها وعالمها والحيوات التي عاصرتها أو تنبأت بوجودها، وبذلك انتفى وجود أنا مهيمنة من بداية الرواية الى نهايتها على الرغم من إن الروائي يفتتح الكلام بصيغة المتكلم،  لكننا حين نلج القراءة ونتهجى سفحها بروية نقف على أنوات متعددة وحكايات متداخلة متوالدة الأمر الذي يجعلنا نظن أن هناك أنا أخرى تختفي وراء جميع الأنوات وهي الأنا الكبرى التي ربما هي الأنا المفاهيمية وليست أنا المؤلف أو السارد التي كثيرا ما تتخفى مقنّعة نفسها لأغراض فنية أسلوبية؛ وما يجعلنا نؤكد ذلك الظن ما يتضح لنا خلال الروي من أن مفهوم الغيرة ودلالته هو الصنو المتخفي لتلك الأنا المفاهيمية التي أشرنا إليها وهي  كثيراً ما جاهدت لتثبت وجودها ونجحت في تجسيد أبعادها عن طريق مواقف وأحداث ليس بوسعهاأن تنمو وتتضافر لولا بروزها على السطح وتشكلها بكينونات متعددة وابتعادها عن كينونة واحدة يستأثر بها الراوي؛  ذلك ان الراوي الذي يروي مستعينا برواة عديدين وأصوات مختلفة  هو لا يروي سيرته  وأيامه،  فقد  مثلت رواية (خِلوّ) فوضى أنظمة سياسية ومجتمعية قد تُوهمنا أحيانا بمفهوم البطولة كلما تبنت شخصية من الشخصيات مهمتها في إزجاء رؤاها وإدلاء مضامينها داخل المتن الروائي لتمتحن فينا مسألة مهمة في الرواية وهي غياب الحكاية الذاتية الواحدة إذ هي رواية مجتمع  انتهكته الفنطازيا ممزوجة بالخيال ومتزينة بأحداث واقعية آنية ومستقبلية لتشكل جملة هموم تداخل زمنها واستعمل فيها الروائي تقنية الأنحراف السردي، ليبدأ السرد انطلاقا من مقتل (حاتم الديو) أمام باب بيته ويمضي استرجاعياً حيناً واستباقياً حيناً آخر… ومن ثم الوصول لشخوص حالمة وباحثة عن الحياة، ولكنها تقع في معترك خيبات شعب أصيب بالهذيان الذي كثيرا ما نتلمسه في مضامين الروي .

إن تعدد الشخصيات الرواة في رواية (خِلوّ) هو تعدد وتباين في المواقف والرؤى، فهناك شخصية تنطلق من مبدئها القيمي البسيط وخيالها الفنطازي وهذا ما يمثله (حاتم الديو) الذي أحدث الروائي معه نوعاً من التخييل العجائبي وذلك بتجاوز الزمن وتخيل الأحداث بعد عقود في الرواية، وهناك شخصية تنطلق من وعيها الرائي عن بعد ويمثلها الراوي الذي يسرد بعض التفاصيل ويوصل الشخصيات الأخرى الى منصة الحكي ويقلدهم أوسمة الأفصاح والأدلاء، بينما تتبنى شخصية أخرى الأنطلاق من أحلامها رابطة مفاهيمها وافكارها بالواقع المعيش وهو دور اتخذته شخصية المثقف (ضرغام) في الرواية، بقي لدينا من الرواة (ابو الهدى) وهو الشخصية التي تنسج من الماضي بساطاً تمده على مساحة الحاضر مستعينة بخيوط فنطازية منمقة بصبغة أحداث آنية ووقائع قائمة على صرح الرواية مأخوذة من حيوات شعب وآمال أجيال، أما الشخصية الخامسة للروي فهي (نشمية ام الخبز) وهذه بمجرد النظر الى تسميتها يأخذنا الانجرار الى الشخصية الشعبية البسيطة الواعية وعياً تعبوياً موروثاً يمدها بمصل المقاومة والمساندة في الاعتصام الكبير اذن هي الشخصية المنطلقة من ذاتها والمندفعة بفعل همٍّ تراكمي متعلق بحب الوطن وحب الأرض ممتزجاً بإحساس أمومي شجي ينضح قساوة ونضوباً في الوقت نفسه لعدم وجود حياة حرة كريمة، ومن ذلك يتضح أن تلك الخطابات التي ترك أمرها السارد للشخصيات كانت متلفظة ومبئرة في الوقت نفسه وفي مواجهة مباشرة مع القارئ  تُبئر الحكي  خلال وعيها معلنة اختفاء الراوي العليم مثبتة أن موقع الرؤية أو صورة الراوي في رواية (خِلوّ) هي الشخصيات الرواة وبالتالي كرست لفكرة التبئير الداخلي حسب مفهوم جيرار جينيت في تصنيفه لأنماط التبئير.

 مستويات اللغة لرواة (خِلوّ):

إن اللغة في العمل الأدبي تؤدي وظيفة جمالية، لا وظيفة إخبارية تقريرية، كما هي حقول أخرى، على حد قول أوستن وارن ورينيه ويليك في كتابهما المعروف “نظرية الرواية” فقد أكدا قبل غيرهما، على أن اللغة في الأدب تحمل نبرة المتحدث بها وتهدف الى التأثير في القارئ وتغيير موقفه (1) . وما يلفت الانتباه أن هذه الرواية ليست رواية للتسلية والترفيه مع أن القيمة الجمالية شاخصة فيها وفي لغتها وهي تذهب باتجاه طرح حداثي يدخل في ادلجة منظومة مجتمعية امتدت لاجيال وتشعبت وتشابكت في أزمنتها وهي تكشف عالم الشخصيات النفسية والاجتماعية والفكرية وعلاقاتها بما دار ويدور في محيطها من أحداث كبرى، أما متعة التلقي فهي تكمن في ارتياد التجربة الإنسانية بألوانها المتعددة وأبعادها المتنوعة عن طريق الخيال الابتكاري والتشكيلات اللغوية غير المألوفة من مثل “ حاتم انخطف قبل منحه الإجازة رفضها. الصوت امره بالمكوث حيث يقف عند مدفعه اللايزال ينفث دخانا” ص8 .

الرواية تبتدئ بقصة دولة نشبت بينها وبين جارتها من الدول حربا كان فيها من الجنود المتحاربين (حاتم الديو) الذي يُرفع في إحدى المعارك الى فوق ويُرفع معه جندي آخر من البلد العدو بالكيفية نفسها ليجتمعا بطريقة عجائبية ويتآخيا، وتبدأ رؤاهما لما يدور في الأسفل مع اجترار التنبؤ بالمستقبل وأحداثه، ولم يسمِ الروائي تلك الحرب ولم يذكر بين من نشبت فقد تجاوز المسميات الصريحة وهذا نهج انتهجه على مدار أحداث  الرواية حتى في الموضوعات التي تلت تلك الحرب وصولا الى التنبؤ بنزول كائنات فضائية تجبر الناس على المكوث في المنازل وإلى قيام اعتصامات كبرى وإلى بناء نفق كبير لتهريب خيرات البلد وإلى انتهاك الحقوق وانعدام المنطق وخنق الحريات بمفهومها الصحيح ومناقشة معنى الديمقراطية مع حضور طاغٍ لابراز درجات متفاوتة من الوعي كانت تستدعي لغة قادرة على التعبير عن الألم المتأصل في النفس بأصوات مختلفة.

لم يعمل الروائي على ابراز طوبوغرافيا البلد الذي واجه تلك الأحداث مع وجود إشارات بسيطة لمعالمه الخارجية وانصباب التركيز على الداخل وعلى الأحداث المريرة من مثل التهجير للناس الذين يتبين عدم تجذرهم أصالة لذلك البلد.

 هناك تسليط للضوء على زوايا معينة شكلت همّا جمعيا لذلك البلد على مدار سنين وعقود من الزمان بهدف خدمة الحدث العيني وكأن الروائي يستعير من السينما تلك التقنية ومن ذلك كلام ابي الهدى وهو يحدث السارد بما جرى في بلده فيقول: “ في الحقيقة والواقع استاذ إنه خبر الأخبار.. قصدي ابو الأخبار جميعا.. الخبر يقول إن هناك أعمال حفر تحت سطح الأرض .. لم تتوقف منذ ابتدأت ولا للحظة واحدة .. ولا لرمشة عين واحدة . منذ متى؟ منذ ساد الخِلو مدن بلادنا. إنها اعمال حفر عظيمة هائلة عملاقة .. استاذ احتاج كلمات للتعبير .. قاموسي فقير . الحفريات تبدأ من الجانب الآخر لحدود البلاد .. قصدي من تحت سطح ارض البلاد البعيدة، ثم تستمر وتستمر حتى تمر من تحت خط الحدود.. فتدخل بلادنا . واين تنتهي؟ الخبر يقول إنها وصلت إلى جميع مدننا وقرانا.. وصلت تخومها فعلا وحقا” ص69. 

من النص السابق يتبين لنا أمران أولهما أن أبا الهدى يتحدث وهو مؤمن بأن قاموسه اللغوي  فقير نسبة الى السارد الحقيقي للرواية وهذا يدلل على علو لغة السارد وتفوقها عليه وثانياً أن النص يشير إلى الانتهاكات المستمرة لذلك البلد من قبل الجوار وهي على مدار سنين كثيرة وتلك زاوية نظر تم التركيز على تبيانها في الرواية على وفق مشاهد وسرودات أحداث غذت جانباً كبيراً من هموم الروي داخل الرواية .  

ليس من الصعب على القارئ الحاذق اكتشاف أن ذلك البلد هو العراق خلال استشعاره ألما حارقاً وجرحاً نازفاً مع نضوب الإحساس بالغيرة على الوطن وهو يتلمس جانبا تعتليه شلة من الخونة تكون بيدهم منصة الحكم في البلد مع  تنامي الإحساس بالغيرة وبقوة في جانب آخر يتبنى تمثله (حاتم الديو) و (ابو الهدى) و (المثقف ضرغام) و ( نشمية ام الخبز) ومن مسوغات ذلك الأكتشاف ما يتضح من غرائبية موت حاتم الديو والاختلاف على وقت وفاته أو مقتله إذ إن الرواية تفتتح بمقتله ويوهمنا أبو الهدى أحد الرواة المهمين في الرواية بأن موته جاء متأخراً وربما مع أحداث فترة الخِلو أي في وقت نزول الكائنات الفضائية وخلو الشوارع من الحياة أو في فترة الهيجان الكبير ومن ذلك ندرك أن الروائي أراد افهامنا بأن الشخص الذي قُتل في تلك الحرب التي جرت أحداثها في بداية الرواية هو نفسه صاحب الغيرة الذي واجه فترة الخِلو وهو نفسه الذي خرج في الاعتصام وقت الهيجان الكبير وهو نفسه من تجره الغيرة في الذود عن الوطن بالروح قبل كل شيء في جميع المواقف والأحداث وبذلك اتضحت لنا فكرة الأنا المفاهيمية التي أشرت إليها في بداية حديثي، إذ ان السرد هو شكل من أشكال التمثيل المتمحور حول الفعل الإنساني وأن افعال الشخصيات تُظهر حقيقة حالتهم النفسية اكثر مما يظهره وصف افكارهم الداخلية لفهم الفعل ولفهم المغزى الذي يكتنف أي موقف، وهذا يحتم على الروائي بناء الرغبات والأهداف والمعتقدات والخطط التي تقوم بتحفيز الشخصيات الفاعلة وهي جميعها هنا شخصيات راوية ارتضت لنفسها المنظور الايديولوجي الذي يوافقها ويكون متلائما مع لغتها ومنطلقاتها من دون أن تجعل المتلقي في ذلك مستلبا أو مخدوعا ويعني هذا أن هذا النوع من الروي مختلف تماما عن الروي المونولوجي الأحادي الموقف والأحادي في الأسلوب واللغة والمنظور وذلك بوجود تعددية حوارية حقيقية على مستوى السراد.

حرص الروائي على التركيز في روايته على اللغة السردية الغنية في إشاراتها وايماءاتها مع الأغراق في الطرح الفلسفي الذي يتحدث به عامة الناس أي الطرح الذي لا يستند الى نظريات وإنما الى وجهات نظر قد يتحدث بها جندي بسيط مثل(حاتم الديو) الذي له آماله واحلامه التي لا تتعدى العيش الكريم في عائلة متحابة وتطلعات نحو الاشباع الجنسي والتمتع بنعم النساء وهذا له لغته التي يتحدث بها ويفهمها كل من يمشي في شوارع محلته لبساطتها فعالمه ليس فيه سوى زوجته وصاحبه الجندي العدو وقريبه عامل المقهى وهذه الشخصية لا تحتاج إلى مستوى عالٍ من اللغة فأبو الهدى ابن المحلة المتنور يمتلك لغة أعلى منه، إذ تميل لغته الى الحكمة والحذر والتروي مع مسحة فنطازية لعبت دوراً مهما في تبني رؤاه حين كان يتحدث عن (حاتم) الذي سمع عنه ولم يلتقِ به وكأنه عاصره،  أو امرأة أمية مثل (نشمية أم الخبز) التي تمتلك مخزوناً معرفياً اكتسبته من تجارب الحياة وتميل لغتها الى الشعبية الدارجة مخلوطة بحنكة الكبار، وجميع من ذكرت تتفاوت مستويات اللغة لديهم صعوداً ونزولاً على الرغم من توازنها ولكنهم جميعاً في اختلاف واضح المستوى ولو قورنوا مع السارد لوجدنا أن حديث السارد أعلى منزلة من تلك الشخصيات التي ذكرت ولا يتفوق عليه سوى المثقف ضرغام الذي كان يحكي له ما جرى في الهيجان الكبير؛ ذلك أن بنية هذه الشخصية تشكلت بتفاعلها وتمازجها مع شخوص أخرى قد يختفي الحد الفاصل للتمييز بين كلامها وملفوظاتها مع بعض الشخصيات مثل ضرغام الذي قلنا إن لغته كانت أعلى من السارد بامتلاكه لغة الحماس أحياناً والتسرع أحياناً أخرى والضخ القوي للمعلومات في أحياناً كثيرة والاستئثار بأغلب صفحات الروي فهو في جميع الأحوال والمواقف يكتنز جعبة مفاهيمية ليست هينة تتطلب لغة والفاظاً واسلوباً مختلفاً غايته خلق التماهي بين المحيط واللغة من ناحية، وبين الشخصيات التي يلتقيها في الرواية مثل ابي الهدى وسرد الأحداث من ناحية ثانية .

إن تكثيف اللغة في عمقها الرؤيوي والفلسفي كان أكثر وعياً في بعض المواقع كحديث أبي الهدى عن الكائنات الفضائية وكيفية تزاوجها أو انقضاضها على البشر وطريقة أكلها لهم أو حديث ضرغام عن القناة التي تؤمن للشباب خروجهم من فتحتها كي ينكبون على التواصل الاجتماعي عبر الفيس بوك والموبايلات لغرض انجاح ثورتهم واكتساب حقوقهم، وفي ذلك قد يتعدى الروائي خطوطه دفعاً بالشخصيات نحو التسامي مع القارئ فهو يقدم سردا فيه مزيج من خرافات وقصص عجيبة تحتاج إلى فرز وتمحيص دقيق كي يتمكن المتلقي من معرفة أسرارها حين يصوغ أبعاد لغة أبي الهدى وأسلوبه، وكذلك حين يتحدث عن واقعية ما يقوله ضرغام فالروائي بالنتيجة معني بإبراز هوية أصحاب الأصوات أي الرواة حتى وإن تكشفت حالة من التنافر بين مستوى اللغة المحملة بالكثير من الرموز والإيماءات، وبين أفكار هذه الشخصيات المعروفة للقارئ وهنا يبرز صوت السارد الذي كثيراً ما يحدث نوعاً من البلبلة وهو يتسلل إلى الروي من مواقع مختلفة يتحكم بها الروائي بنفسه. 

عرض مقالات: