ليست نادرة الكلمات التي لها أكثر من معنى في ذات اللغة، وثمة كلمات تحمل معنيين متناقضين تماما، مثل كلمة مولى في اللغة العربية، التي تعني السيد وتعني أيضا العبد. وإذا كان للكلمة أكثر من معنى فأن الجمل، حتى البسيطة منها، أشد تعقيدا، ويمكن ان تفهم الجملة على نحو مختلف من تلميذين يسمعاها في قاعة درس من معلم واحد. أو من طفلين يتعاملان مع نصائح الأبوين، ويفسرها كل منهما حسب تصوراته ورغباته، وأحيانا حسب هواجسه ومخاوفه، وغير مستبعد على الأطلاق، أن فهمهما للأمر أو النصيحة، سيختلف أن كانت صادره عن الأب أو عن الأم، فكل منهما يمكن ان يعني بذات اللفظ شيئا مختلفا عن ما يعنيه الآخر.

أما الأفكار وخاصة التجريدية منها التي ليس لها تجسيد ملموس، وتلك المتعلقة بالغيب والعالم اللامرئي وغير المحسوس، فانها أكثر ضبابية. وتتعاظم ضبابيتها، حين تنتظم في منظومات فكرية، دينية أو فلسفية. ولهذا فان معتنقي تلك المنظومات يختلفون في فهمهم لها وفي تفسيرهم لمعانيها وتجلياتها، وليست الندوات الفكرية والأجتماعات الحزبية، والخطب الدينية، وكتب الشرح والتفسير، ليست سوى محاولات لتقريب الرؤى، والتوصل الى فهم مشترك يجمع عليه معتنقوا تلك العقائد. والإجماع قريب من المحال، وشكل الحديث المنسوب الى النبي محمد: ((إختلاف أمتي رحمة)) محاولة لتجاوز صعوبة الأجماع وربما إستحالته.

وقد أثبتت مسيرة التأريخ أن أية منظومة فكرية سواء نسبت الى السماء، أو إلى جهد علمي أو فلسفي بشري، لا يمكنها إلا أن تتشظى وتتفرع وتتوالد، ويتشظى معتنقوها، وربما تتسع شقة الخلاف فيما بينهم لتصل حد التناحر، والعمل على أجتثاث الآخرالشريك في أعتناق ذات المسمى الإيديولوجي أو الفلسفي، والسعي الى تصفيته ماديا ومعنويا، سواء كان فردا أوجماعة.

وعلى هذا يمكن الأستنتاج أن أي أدعاء عن نقاوة إيديولوجية، أو تمسك بعروة دين أو مذهب وثقى، ينطلق من أتباع ((فرقة ناجية)) أو ((مخلصون لمبادئ)) الإيديولوجيا، أنما هو إدعاء لحمته وسداه التضليل أو التحجر والجهل.


والحال ليس أمامنا سوى تحويل الخلاف الى رحمة عن حق، أي الإعتراف بالرأي الآخر والتفسير الآخر والدين الآخر، واللا دين الآخر، وكف جميع الأطراف عن أتهام الآخرين بالمروق وإدعاء أمتلاك تفويض إلهي أوإيديولوجي لفرض رؤى معينة على الأخرين سواء كانت تلك الرؤى تمثل أكثرية أو أقلية مجتمعية، دينية أو سياسية، فالأقليات والأكثريات حالات متحركة، ما دامت تتعلق بالفكر أو بالمصلحة، وهما ـ الفكر والمصلحة ـ دائما التغير.