خريف عام 1978، وبالتحديد مع بداية الدوام الرسمي للمدارس والجامعات، كنت أحبس أنفاسي مفكراً ومستطرقاً بالذي سيحدث من أحداث، خصوصاً بعد إشتداد قمع وإرهاب منظمات الأمن والبعث، للشيوعيين والديمقراطيين، ولكل من يرفض رفع راية الولاء لهم.

كنت يومها قد أنهيت عامين من دراسة الإدارة والإقتصاد في جامعة الموصل، التي قدمتها من مدينتي الكوت عام 1976، لأعيش فيها، في أم الربيعين، وهي كذلك حقاً، تفاصيل تلك الأيام والأماكن والأحداث، التي مضى الزمن طويلاً على حلاوتها ومرها، ولكنها بقت كالوشم محفورة في الذاكرة.

وكضريبة مضنية وعسيرة في مواجهة عسف وإجرام ماكينة النظام وقمعه الذي صار سافراً، كان لابد من حسم الموقف وإختيار ملامح الطريق في القادم من الأيام.

كان الخيار صعباً ومحيراً بالنسبة لي، حتى أوجع رأسي وروحي، وأخترت ترك مقاعد الدرسة والتخفي عن أعين السلطة ومخبريها وجلاوزتها، بديلاً عن الخيار الآخر في انتظامي كطالب في الجامعة، وتحملي المسؤولية عما سيترتب على ذلك من ملاحقة وإعتقال، وغيرها من التفاصيل، وكانت الصورة بانية لي ودون رتوش، خصوصا حين شرعوا كالذئاب المتوحشة، بمداهمة الأقسام الداخلية للطلبة، وإعتقال وإحتجاز الشيوعيين، من الشوارع، ومن أماكن العلم والدراسة..

وللتكيف مع الحال الجديد انتقلت سراً للعيش في سكن جديد في منطقة النبي يونس في الموصل، تاركا سكني في الشقة التي تقاسمت العيش فيها مع خمسة زملاء ورفاق وسط شارع خالد بن الوليد في الموصل.

نحن الستة الذين تقاسمنا السكن الجديد كنا قد حزمنا أمرنا وتركنا دراستنا، مشرعين في الإختفاء في مدينة الموصل، ومواصلة العمل والنشاط الشيوعي وبالشكل السري الذي يتلائم مع تبدل الأحوال في تلك الأيام. سكننا الجديد عبارة عن غرفتين متقابلتين وفي الطابق العلوي لدار قديمة، يفصل بينهما حوش صغير اتخذنا منه مكاناً للطبخ. غرفتنا ضمتني مع رفيقين الأول من كربلاء وكان يدرس في أحد معاهد الموصل، والثاني من السماوة ويدرس معي في كلية الادارة والإقتصاد، وغرفة السكن الثانية ضمت رفيقين من كلية الطب البيطري أحدهما من الكوت، والثاني من البصرة، وشاركهم السكن رفيق آخر كان يدرس الهندسة ومن أهالي مدينة السماوة.

العائلة التي إستأجرنا منها الغرفتين كانت كادحة وفقيرة محشورة مع أطفالها في غرفة بائسة في طابق البيت الأرضي، وكان كل عمل الرجل الستيني هو ذهابه للجامع القريب، وفي أوقات مختلفة، لرفع الآذان، وربما كان هذا فألاً حسناً لنا كهاربين ومختفين عن أعين السلطة، ولدفع الشبهة عن سبب سكننا هناك...

في النهار نمكث في الدار لمطالعة الكتب السياسية وغيرها، ومتابعة الأحداث، والنقاش الطويل المحتدم حول أحداث وتقلبات تلك الأيام، وما ينتظرنا من مصائر ربما بدت مجهولة.

ومع بدايات كل مساء نخرج فرادى وبحذر، لإنجاز ما يتطلب من عمل وإدامة الصلات، ومتابعة أخبار الرفاق، وتفاصيل ما سيترتب من وضع جديد، وأداء ما يتطلب من مهمات، بعضها بالتكليف، وغيرها بالمبادرة الشخصية.. ولم يدم الحال هكذا حتى إضطررنا لترك الدار والمغادرة، وبشكل سريع كالبرق، خوفاً من قدوم رجال الأمن، خصوصاً بعد إشتداد البطش والإعتقالات، وتطورات أخرى ..........

ولصعوبة العيش والبقاء في مدينة الموصل، اتخذت القرار الأصعب بترك مدينة الموصل والتوجه للعيش والإختفاء في بغداد الكبيرة، ومع مجموعة من الرفاق من أصدقائي.. بعد رحلة قطار مسائية حذرة لم يغمض لنا فيها جفن حتى الصباح، مرت تلك الليلة دون مصادفات غير محسوبة، خصوصاً وأنهم شرعوا في البحث عن الشيوعيين ومطاردتهم، حتى صار هذا كمهمة عاجلة لهم، ورغم أنهم قد صعدوا بالفعل لعربات القطار عند توقفه في محطة حمام العليل، متطلعين في الوجوه، ولكن دون إعتقال أو إلقاء القبض، وربما كان الهدف التخويف والترهيب.

 وصلت بغداد وأنا في لجة الأفكار والكوابيس، وما يترتب على من تفاصيل للتكيف مع الحال الجديد.. الأيام والليالي الأولى قضيتها ثقيلة في الفنادق الرخيصة التي يعج بها شارع الرشيد ودرابينه الضيقة، وبحجة كوني لازلت أدرس كطالب جامعي، ولديَ هويتي الجامعية الرسمية. ولكن هذا لم يدم طويلاً، خصوصاً مع التشديد البوليسي على أصحاب الفنادق، وطلب الجرود اليومية والمعلومات التفصيلية عن الزبائن والنزلاء، وإضطررت لبضع ليال من النوم متخفياً، في حدائق أبو نؤاس، ومنطقة القناة، وبعد أن ضاقت بي السبل.. وبمساعدة رفيق شيوعي من مدينة الكوت، كان يدرس الإقتصاد في بغداد، تمكن مجموعة من الشيوعيين الهاربين من مدينة الكوت، من إستئجار غرفة صغيرة في الطابق الأعلى من خان كبير يجاور مقهى البرلمان المعروف في بغداد، وقريبا من مطعم الإخلاص المعروف بكبابه الطيب. وفي هذه الغرفة الصغيرة وجدت لي مكاناً مع رفاقي، علي منصور الحسن( أستشهد في حركة الأنصار)، عبد المحسن لفتة ( أستشهد في حركة الأنصار )، عبد الزهرة خضير، سعد عبد الحسين، وكان سعد الأصغر سناً بيننا والأطول قامة، ويدرس في الثانوية وينشط في اتحاد الطلبة، بعد أن حُشرنا في تلك الغرفة الضيقة القديمة المتهالكة والمعلقة.

لم تمض الأيام سهلة في العيش والتخفي في مدينة مليونية مثل بغداد، خصوصاً لمشردين كحالنا، ولمن لا يملك عملاً، ناهيك عن ملاحقة رجال الأمن والمخابرات، وابتكارهم أساليب جديدة في القبض على الشيوعيين والمطلوبين، ومنها إستقدام رجال الأمن المتدربين في فنون المراقبة والتجسس ومكافحة الشيوعية، من المدن والمحافظات العراقية الى بغداد، ولغاية التعرف على أبناء مدنهم، من الشيوعيين المطلوبين، وبعد تزويدهم بالصور والمعلومات عنهم..

اتفقنا نحن سكان الغرفة في ذلك الخان الكبير على تنظيم شؤون عيشنا وشكل تحركنا وعلاقاتنا، وكان أهم قرار اتخذناه أن نلجأ للعمل والكسب، ولسببين منطقيين، الأول ضمانه لنا في قضاء الوقت الطويل من أيام النهار، وبعيداً عن أعين رجال الأمن والبوليس السري، والأخر ضمان توفير النقود من أجل العيش، خصوصاً وقد اخترنا الهروب والإختفاء، وبلا رواتب ولا اعانات دراسية.

العِمَالَةُ في حساب اهل اللغة تعني حرفة العامل، وهي تعني أيضاً مجموع الأيدي العاملة.. لكن اللسان الشعبي المحكي قد استصعب نطق الكسرة تحت حرف العين فأبدلها بالفتحة وصارت عَمَالَةُ، ومثل تغير الكسرة إلى فتحة، تغيرت مهنتي من طالب جامعي أنيق وبزلف طويل وشعر مسرح وبنطلون جارلس، الى عامل بلباس عادي، بنطلون وقميص ونعال، وعرقجين لحماية الرأس، وبالضبط حين تقسو شمس الظهيرة ويكون العمل مكشوفاً في الخارج.

- هل ترغب بالعمل معي ...لقد وجدت عملاً في أسواق المنصور.. أحدهم سيفتح محلاً مهما هناك، وسننجز بعض الأعمال الثانوية هناك...

كانت كلمات حسن مهدي العلاق (مهند) محببة تشبه كاس الماء الباردة، جعلتني محبذاً للفكرة دون جدال، وفكرته هذه ستختبرني للمرة الأولى عاملاً بعد استبدالي الدراسة بالعمل إضطراراً، ولأن حسن من أقرب أصدقائي، وهو قد زاملني الدراسة في اعدادية الكوت، وكان من نشطاء اتحاد الطلبة، وفنانا تشكيلياً مرموقاً، ثم جمعتنا الأيام في مدينة الموصل وفي نفس الدراسة في كلية الإدارة والإقتصاد، وبعدها المصير في أن نتخذ من بغداد مكانا لنا كمشردين هاربين عن أعين رجال الحكومة وشرطتها.

خرجت مبكراً جداً في الصباح ووصلت أسواق المنصور ووجدت حسن في إنتظاري هناك، ليشرح لي تفاصيل العمل والمطلوب، ولم تمض دقائق قليلة حتى شرعنا في العمل كعمال محترفين مهرة..ليس لدي صوراً توثق ملامحنا في تلك الأيام، ولكني سأتخيل حالنا بالملابس التي تبدو قديمة، ونحن نستخدم قفازات قماش، منغمرين في حك وصقل وترتيب الواجهات الخشبية وتنعيمها، باستخدام كواغد ( سمبادة )، والغبار يعلو متطايراً محيلاً شعر رؤوسنا إلى كتلة من الطوز والغبار.ومضى يومان وعملنا على ما يرام مثلما يقولون، وبشهادة صاحب المحل، الذي عبر عن استحسانه ورضاه... في اليوم الثالث وبينما أنا منهمك في العمل شاهدت رجلاً بملابس أنيقة وببدلة سوداء وربطة عنق وحقيبة يد صغيرة، وهو يقف ليس بعيداً عني متطلعاً لي، وحين ركزت النظر في ملامحه، عرفته في الحال، وكان هو خالي الفنان المسرحي والإعلامي، عبد المنعم خطاوي (أبو زينة )، وكان يومها استاذاً للمسرح ومعاوناً لعميد معهد الفنون الجميلة، والمعهد لا يبعد سوى مسافة قليلة عن موضع عملي في أسواق المنصور، وكان قد قدم لشراء بعض الحاجات متفاجئاً بي، وبحالي في تلك الحال... بعد السلام والعناق والكلام، غادرني مودعا، وعدت لعملي، وقد فطن صديقي ( حسن ) لقراري بعد تلك المقابلة، وبأني سأنهي العمل، مخافة أن يصل الخبر الى أهلي في الكوت، الذين لا يعلمون بموضوع تركي الدراسة في الموصل والعيش في بغداد، وكان حسن محقاً في فطنته، وودعته في نهاية يوم العمل...بعد أيام حصلت على أجري من تلك الأيام، وكانت أول أجرة عمل أحصل عليها من أيام العمالة بعد الدراسة..

في بغداد تعاون الشيوعيون من اهالي المدينة، مع رفاقهم القادمين من المدن والمحافظات الأخرى، في إيجاد أعمال وأشغال مختلفة لهم، في المحلات والمعامل وورش النجارة والحدادة والمطاعم والمقاهي والفنادق، وهي صورة من صور التلاحم والتعاضد الرفاقي، ناهيك عن التعاون والتنسيق بين الشيوعيين المختفين في أزقة بغداد وحاراتها في ايجاد العمل والسكن لبعضهم البعض...

وأخبرني رفاقي بان أجهز حالي للعمل كعامل مع أحد المهندسين فوق جسر من جسور بغداد، واستيقظت عند الفجر ووصلت المكان، ولم يكن بعيداً جداً عن منطقة سكني في الحيدرخانة.. فوق الجسر الطويل والعريض والعالي الذي يجاور مدينة الطب فوق نهر دجلة، كنا نحن مجموعة من العمال، ومعنا اثنان من المهندسين، وأظن بأن الجميع كانوا شيوعيين وهاربين.. مهمتي في العمل كانت الإمساك بلوح خشبي أو المسطرة الهندسية، وأقف دون حركة، في مكان محدد يحدده المهندس، ويبدأ هو من مسافة محددة قبالتي، بإصدار الأمر بتحريك المسطرة حسب طلبه، وبطريقة تتيح له تحديد القياسات المطلوبة الدقيقة التي يعتمد عليها القياس والتعمير والبناء لاحقاً. كنت أشعر بنوع من الحذر والخوف والتوجس، خصوصاً في هذا المكان العالي فوق الجسر، والمكشوف والعاري، حيث تمرق في اللحظة مئات المركبات والسيارات وبمختلف الأشكال والأحجام. وكانت مخافتي وشعوري، بأن يمكن لأحدهم من داخل واحدة من هذه المركبات، أن يتعرف على وجوهنا، ويسهل على سيارات الأمن في أن تقف لتكرفنا صوب دهاليز الجحيم والمخابرات.. ومن حسن الحظ أن ذلك العمل لم يدم طويلاً، وكنت قد كرهته، لما ذكرت، وللرتابة فيه، خصوصاً حين يفرض عليك الوقوف كالمهبول طوال الوقت وبيدك عامود المسطرة...يمين.. يسار... ستوب.

المهندس والكادر الشيوعي الأسمر الجميل الطلعة والروح مهدي برهان (أبو وفاء) ابن مدينة الكوت، الذي إضطره الفاشيون على ترك عمله وعائلته في الكوت، والعيش مختفياً في بغداد، ارتبط بعلاقات وصداقات طيبة مع الرفاق المشردين في بغداد. وبواسطة جهوده الجبارة في مساعدتنا على الحصول على عمل، تمكن أكثر من رفيق أن يضمن مكاناً للعمل، وبعض الأحيان في الاختفاء فيه إذا تطلب الأمر... وبتوصية من الرفيق مهدي برهان، الذي غيبه الفاشيون لاحقا، ليلتحق بركب الشهداء الشيوعيين الخالدين، حصلنا على عمل كعمال بناء في تشييد بناية رياضية قرب ملعب الشعب الدولي، وكانت أياماً صعبة ومضنية، ونحن نحفر بالقزمات والكراكات، الارض الصلبة، لترتيب أساس تلك البناية، ووضع شيش الحديد والصب، وكانت الساعات الثماني ليوم العمل تمر ثقيلة مضنية وشاقة وقاهرة.

وتحتم الظروف على لاحقاً العمل كعامل في مصنع لصنع المعكرونا، يقع في منطقة الكرادة الشرقية خارج، وقد رافقني في العمل رفيقي الدكتور البيطري سفاح بدر، ابن مدينتي وصديقي ورفيقي من أيام الكوت، ومن أيام الجامعة، وكان قد رافقني في السكن في نفس البيت الحزبي في منطقة النبي يونس في الموصل. وكانت المرة الأولى لي أن أعمل عاملاً في مصنع وبأجر يومي، وأكون ملاصقاً ومتحداً بالآلات وبأصوات المكائن والضجيج، ويومها تذكرت لحظات العمل ليوم واحد وتطبيق في معمل النسيج في الكوت حين كنت طالباً في اعدادية الكوت.... معمل صنع المعكرونة هذا كانت مواصفاته كاملة وآلاته حديثة، وهو يصنع المعكرونة، ابتداء من تحضير القمح وطحنه، وحتى اتمام تعليبها وتجهيزها في علب كارتونية، وبألوان وماركات جميلة.. لا أعرف بالتحديد هوية صاحب المعمل، وكنت أجهل الطريقة والشخص الذي توسط لي للحصول على العمل، وهم بالتأكيد رفاقي الشيوعيون، وعرفت لاحقاً أن نصف عمال المعمل ذاك كانوا من الشيوعيين الهاربين من مدنهم صوب بغداد..

ومع مرور الأيام تكيفت مع الحال الجديدة، وأعني العمل الطويل في النهار، والذهاب للراحة والاسترخاء مساء في البيت، ثم الخلود للنوم مبكراً ومن أجل النهوض مبكراً أيضاً. وكل هذه الأعمال التي مررت بها لم يستغرق سوى عدداً من الأيام، بسبب الظروف والحال المتوتر والقلق.. العمل الوحيد الذي بقيت فيه ولفترة طويلة نسبياً، امتدت حتى خروجي من العراق في تموز 1979، كان العمل في العمالة كعامل بناء، ولم يكن هذا النوع من العمل غريبا واستثنائياً بالنسبة لشخص مثلي، تربى في بيت ليس بعيداً عن العمل والعمال، وإبن لعامل بناء ومنذ صباه المبكر حين كان العمال يضطرون بأقدامهم للوك وعجن التبن بالتراب والماء ومن أجل صنع طابوق البناء الطيني، وتدرج هكذا ولسنوات طويلة حتى صار مساعدا لبناء، ثم صار بناء محترفاً، وبعدها تحول إلى إسطة متمرس ومعروف في مدينة الكوت، ثم ليتحول إلى مقاول معروف في المدينة والمحافظة، في فترة السبعينات من القرن الماضي، وفي فترة الرفاه الإقتصادي المعروفة التي مر بها العراق بعد تاميم النفط .

العمل في البناء والعمالة من المهن الصعبة والشاقة، خصوصاً في أجواء مناخية كأجواء العراق، حيث البرد الشديد والحر الشديد الذي لا يرحم... وربما لو لم تكن الظروف القاهرة، والعناد الشيوعي على التحدي والعناد، لما كنت قد استطعت وربعي اجتياز هذا الامتحان العسير...

في المساء جهزت حالي مع ثلاثة من جماعتي، ونهضنا مبكرين ومغبشين، نحو مسطر ومكان صغير لتجمع العمال يقع قريبا من منطقة الباب الشرقي في بغداد، وكان في انتظارنا هناك شخصان حسنا الشكل والمظهر، عرفت في ما بعد بأنهم الأسطوات الذين سنعمل معهم، وهذا العمل أيضا حاله حال الذي سبقه، وتم بترتيب من الحزب والرفاق، وهكذا كان يتم التوضيح بهمس.

بواسطة سيارة بيك آب قطعنا مسافة طويلة حتى وصولنا مكان العمل، وكانت هيكل دار كبيرة في مراحل الإنجاز الأخيرة، وتعوزها بعض أجزاء الحمام والتفاصيل الباقية، وتطبيق الكاشي واللبخ والبياض، وغيرها...

كنت أتطلع في استاذيَ البنائَين، والذي أسر لي أحد رفاقي الذي شاركني العمل، بأنهما ايضا من جماعتنا، يعني شيوعيين حمر، ومشردين أيضا، وكانا حازمين في موضوع العمل والمهنة، وبسرعة فائقة تم التوضيح عن المطلوب منا في تفاصيل العمل والشغل كما يسميه العراقيون بالشعبية الصحيحة، ولم يكن العمل معقدا، حيث يتطلب إعداد الخبطة المكونة من الأسمنت والرمل العادي والأحمر والحصى الناعم، ومزجها جيداً بالماء، ومن ثم نقلها غبر طاسات كبيرة لتكون قريبة من يد الأسطة البناء...

جابر... وهكذا كان اسمه، والذي صار لاحقا استاذي في العمل في البناء وتطبيق حجر الكاشي الفرفوري تحديداً، والذي كاد أن يعلمني المهنة، لولا قصر فترة عملي المشترك معه. وكان شاباً فارع القامة وسيم الشكل وأشقر الشعر وبعيون زرق، حتى تحسبه ممثلاً سينمائيا من أهل الإنكليز، وليس كخلفة وأسطة بناء. ولم يشأ ولا أيضاً أخيه حبيب، التعامل معنا بصفة رب عمل وعامل، وكانت المعاملة إنسانية وبكثير من اجواء المرح والبهجة ويتخللها دائماً الأبوذية والشعر والغناء، والأحاديث، وبكل أمور الدنيا، وكانت أجورنا مجزية كبقية العمال، ثلاثة دنانير ونصف في اليوم، وكان الدينار يعور في ذلك الزمن كما يقولون، كل دينار يساوي ثلاثة دولارات وربع الدولار...

حبيب يبدو وكأنه أكثر عمراً من أخيه، وكان طويل القامة وممتلئ الجسم وبوسامة وملامح طيبة وخشنة قليلاً، ولكنه لا يشبه كثيرا الأسطة جابر أخيه.

رغم المعاناة والكد والظروف، صارت أيام العمل تمر سريعاً، ونحن نتنقل من بناية أو دار، لأخرى، وفي حالة حذر شديد، ومتهيئين لكل طارئ أو حدث...وكان يصدف ان يشاركنا العمل بعض العمال المصريين، ونكون في مثل هذه الحال في حالة انتباه وصمت، وكأننا لا نعرف بعضنا البعض..

لم أكن أعرف الكثير عن الأخوين جابر و حبيب، حتى التقيت برفيقي وصديقي عبد الزهرة خضير ( ابو سامر ) في الكوت بعد 2003، والذي قص لي حكايتهما، وأضاف لي الكثير من الأخبار والمعلومات ايضاً الرفيق خليل عبد كاطع ( جلال)، وهو رفيقي في الحركة الأنصارية، وكانت لأخيه الشهيد الشيوعي ( جليل عبد كاطع) علاقة صداقة مع العزيزين جابر و حبيب، ومن خلال عملهما المشترك في منظمات الحزب الشيوعي العراقي والشبيبة الديمقراطية، وكان الشهيد جليل لاعباً مرموقاً في كرة القدم وكابتناً  لفريق الظل الأهلي، والذي كان واجهة للشبيبة الشيوعية في مدينة الثورة في بغداد..

رغم كونهما من أهالي بغداد، وبالتحديد من مدينة الثورة قطاع 55، كانا مختفيين عن انظار السلطة، التي طاردتهما في حينها طويلاً. وكان حبيب رياضيا معروفاً، ولعب كحامي هدف بارع، في فريق الظل الأهلي لكرة القدم في مدينة الثورة، وارتبط وأخيه جابر بعلاقات وثيقة مع الرياضي المعروف ونجم المنتخب الوطني الشهيد الخالد بشار رشيد.. وكانا قد اضطرا للهروب والاختفاء بعد اعتقال الشهيد بشار، والذي صمد صموداً بطوليا، وأفشل كل رغبات مجرمي نظام العصابة، في الوصول الى رفاقه..

 رغم مرور أكثر من أربعين عاماً مضت على تلك الاحداث والذكريات، لكنها بقيت كالوشم في الذاكرة...ليس لي سوى الدعاء بالصحة والعافية وطول العمر لأستاذي في العمل الأسطة جابر وأخيه الأسطة حبيب.

لقد علمتنا الايام أن نجتاز الظروف والمعاناة، وكان الهدف الأسمى أن ينعم وطننا بالخير والرفاهية، وأن يتخلص شعبنا من الجور والظلم والديكتاتوريات... وكانت التجربة كبيرة وفيها دروس ظلت محفورة في الذاكرة، وخصوصاً حين لم نعد نحن الطلاب في تلك الأيام، وروداً في صدور العمال، وإنما صرنا في مركب واحد مع العمال، ولو لبعض الزمن، ولنا كل الحق في الفخر بتلك الساعات والأيام، وبتلك اللقاءات والصباحات المشرقة الجميلة، وسط رائحة المدينة والغبش، وشوربة العدس الساخن، والصمون الذي يسيل اللعاب، وعلب مربى الرقي وشدات الخبز، حين كنا نتناولها وسط  رائحة الأسمنت والطابوق، في  نهارات بغداد...المجد للعمل والعمال..ولهم الغد، كل الغد الجميل المشرق، طال الزمن أم قصر...

........................

26 نيسان 2021...السويد.. فيرملاند

عرض مقالات: