قبل اربعين يوما تلقينا ، نحن العراقيين في المهجر الهولندي، ضربة قوية من عصا الموت النازلة، فجأة ، على قلب الراحل عبد الصمد تقي آل طلال ، حيث باغتته سكتة القلب، بلا وجع ولا ألم، جاءته أشباحها المارقة ، حين كان جالسا على عربته الفاخرة (سكوت موبيل) بعد مغادرته مقر (نادي الآباء) في لاهاي حيث اعتاد قضاء وقت نهاره مع اصدقائه الهولنديين والعرب والعراقيين.
قبل الساعة الثامنة بقليل من مساء يوم 28 شباط 2018 توقف قلبه بباب شقته ، حيث لم يكن هناك أي حشد ولا أي شاهد زحام أو شاهد موت .
نجتمع اليوم بهذه القاعة تأبينا لذكرى رحيل صديقنا العزيز الدكتور عبد الصمد .
لا اريد ان أريق ماء الهم والغم بهذه المناسبة.. لا اريد ان اشعل حرارة جمر الفراق في اكباد افراد عائلته الكريمة.. لا اريد ان اقول ان غصنا من غصون شجرة الشيوعية العراقية في بقعة من البقاع الزاهية الخضراء بهولندا قد حمله البرق السريع الى الخلود الابدي.
لكن ما اريده ، هنا ، هو رؤية وجوهكم يا من كنتم احباءَ للمناضل الشيوعي عبد الصمد تقي (ابو أركان) تريدون شمسا دائمة تطلع على وجه احمر من وجوه اعضاء منظمة الحزب الشيوعي العراقي بهولندا وحركتها المتطلعة الى مستقبل وضاء لشعبنا العراقي المكلوم بسهاد المصائب ومختلف العلل السياسية والاجتماعية والاقتصادية المؤرقة.
ولد الراحل عبد الصمد ال طلال في ظرف انساني – بدني مغلق من الناحيتين البيولوجية والنفسية .. بدت ملامحها الانسانية بمثابة تعجيز هذا المولود عن أية حركة انسانية لعطل الاطراف الولادية الاربعة .. بدت الولادة كأنها تجربة انسان من دون قدرته على التوازن.
ظل الانسان عبد الصمد متشحا خلال فتوته و شبابه متوازناً ليس بمشاعره الانسانية العظيمة فقط ، بل باختصاص قائم على كبرياء الانسان المناضل بجدارةِ حملهِ لقبين بآن واحد: لقب رفيق شيوعي ولقب دكتوراه اكاديمي بمعنى من معاني اندماج لقبين، اندماج العصامية الذاتية مع العصامية الجمعية.
بحمله هذين اللقبين انما حمل القدرة الحقيقية الاستثنائية على وفق قاعدة:
تعلّمْ يا عبد الصمد كيفية التعلم بالحياة صعودا الى اعلى.
استطاع هذا الرجل ان يكتب تجربة فريدة النوع في تخطي كل صعاب الحياة من خلال انتمائه الى الحزب الشيوعي العراقي إذ صارت حياته متطابقة ومتلائمة مع الروح العصامية الجماعية الخلاقة.
أوجد الراحل برهانا مؤكدا لنجاح تجارب ديناميك العمل الجماعي ، العمل السياسي – الثقافي الجماعي والعمل الاكاديمي الجماعي والعمل المشترك، أولاً ، من اجل خلق وتعليم عائلة من ولدين وبنت وزوجة ناشطة في العمل الاجتماعي – المدني .. كلهم نالوا من علمه وثقافته نصيبا وفيراً.
ما ظل الراحل اسير النشأة الشخصية الذاتية المحبطة واسير زمانه الصعب جداً والعسير جدا ..
نجح باختبار نظام تعليمي فردي استطاع به ان يزيح عن حياته كل نوع من الخوف او الشك اذ صار الوعي الشيوعي – الجمعي قوة عقلية مضافة الى قدراته في المقاومة البدنية والعقلية، مما جعله قادرا على تطبيق طريقة فريدة في حياته باستيعاب اغلب حوافز انظمة الدراسات العلمية في مدارس ومعاهد وكليات ببغداد وبرلين ولاهاي ، استقبلته بنجاح وهو منتمٍ الى علوم ومعارف الايديولوجيا الشيوعية، التي اوجدت عنده همزة الوصل الكبرى بين الفيزياء الشيوعية وعلم النفس النضالي، مما جعله انسانا مخلصا لقضية شعبه الذي يعاني الضيم امام مفهومات وممارسات الحكومات الدكتاتورية المتعاقبة.
لم ينشغل الدكتور عبد الصمد بالمعاقة البدنية وبالسير الابدي على عكازتين معدنيتين.. لم ينشغل بعالمه الداخلي وبمونولوج الحوار مع نفسه، بل اتجه انشغاله الدائم مع الدراما الشعبية العراقية، كلها، حيث فرضت نفسها عليه مثلما فرضت نفسها على جميع الادباء والفنانين والعلماء والكتاب العراقيين ، خصوصا من اولئك المدافعين عن حقوق وحريات الكادحين .
لم يأبه بشيء اسمه الموت لأنه كان يعتقد ان حياة كل انسان تمشي الى الموت في نهاية المطاف بعد ان يسهم بكفايته بمسرح الحياة .
تعرفت عليه اول مرة عام 1996 حين كان يواصل مرافعاته واجتهاداته في عمان الاردن من اجل السفر والهروب الى بلد اوربي للخلاص من كيد نظام صدام حسين وحزب البعث ..
وجدته في تلك الآونة رجلا قادرا على تجاوز العكازتين واختراع الحلول المتجددة لأوضاعه البيولوجية والاجتماعية والسياسية المعقدة، ثم التقيته بعد عامين في العاصمة الهولندية لاهاي وقّادا في الذكاء والفكر والاخلاق، منسجما مع انضباط ابداعي حيث كرس وجوده اليومي الى الغد العراقي الديمقراطي والى احتمالية تربية الحرية وحقوق الانسان في بلاد الرافدين ، ناشرا افكاره على (موقع الحوار المتمدن).
لم يتعقد بسلوكه الداخلي والاجتماعي ، بل كان في جميع مراحل حياته حسّاباً دقيقا للاحتمالات والممكنات وحتى المصادفات.. كان يريد ان يستبق الزمن لكي لا يكون معطل العقل والبدن، بل مستثمرا جميع الفرص الإنسانية المتاحة.
نعم وجدت هذا الانسان متمسكاً بروحين عصاميتين هائلتين . العصامية الاولى ذاتية شخصية متعلقة بكفاحه العنيد من اجل التواصل مع الحياة والمعرفة . العصامية الهائلة الثانية هي الموجودة في برامج كفاح الحزب الشيوعي العراقي ، لذلك ظل متمسكا بها إلى آخر لحظات عمره . كان عقله منظما قادرا على تصحيح اخطائه بنفسه وقادرا على تصحيح تطلعاته ليس في تفوقه في الدراسة الاكاديمية بـ(إرادة عصامية ذاتية) فحسب ، انما تفوقه في الحصول على لقب شيوعي ذي ( إرادة عصامية جماعية ) وقد ظلت المبادئ الشيوعية المتطورة ،المتغيرة ، تسلحه بعلوم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان وحرية المرأة ، متجاوزا كل نوع من انواع المخاطرة الفكرية. لقد وجدت هذا الانسان الاستثنائي يحاول العلو دوما حالماً ان يكون حزبه الشيوعي العراقي بعلو الشمس والجبال العراقية وان حركة الحزب بعد بلوغه الرابعة والثمانين من سنين العمر ما زالت بأصلها تسابق الرياح والسحاب .
بأي مشهد يمكن تصوير مصرع الدكتور عبد الصمد في باب داره حيث تألف الموت من ثلاثة مقاطع:
المقطع الاول: هو قضاء آخر نهار من نهارات حياته في (نادي الاباء) بمدينة لاهاي.
المقطع الثاني: هو إنشاد آخر قصائده امام اصحابه الهولنديين بلغتهم وكانت قصيدة عن المحبة والسلم والمستقبل.
في المقطع الثالث كتب الراحل نهاية فريدة لحياته خلال فترة انتقاله كيلومترين - هي مسافة النادي الى بيته - في يوم غاضبٍ طقسه بالبرودة العشرية تحت الصفر.
أي خبر يمكن تصوره عن انسان يرسل بباب بيته صوتا عجيبا بشهقة الموت بعد وصوله اليه.. ؟
لم يتعجب الموت وهو يشاهد مخلوقا انسانيا فاتحا بيديه كتابا مسطورا فيه كل شيء عن التشفع بمستقبل الشيوعية.

أخيرا ألخص القول والتأبين :

ايها الشيوعي الراحل عبد الصمد آل طلال.. يا ذا اللطف والجلال.. يا ينبوع العطاء: صحيح انك لا تتنفس، الآن، لكننا نحس ان آمالك في خلاص شعبنا العراقي من آلامه لا تتم إلاّ بانتصار الديمقراطية الشاملة في عموم بلاد الرافدين.

عرض مقالات: