في خلال ثمانية عقود من حياتي اقتربت اكثر من مرة من حافة الموت، ولكن القدر قد رسم لي مسيرة أخرى. أول حادث وكنت يافعاً اتدرب على السباحة عند أحد معلمي السباحة من المواطنين العراقيين اليهود في نهر دجلة على شاطئ سيد سلطان علي في قلب بغداد. وصادف أن ناقلتين ضخمتين للبضائع كانتا تمخران أمواج نهر دجلة، وعلى حين غرة وجدتني اقترب من الناقلتين في وسطهما، وهذا يعني الغرق الحتمي، ولكن الصدفة أن رمى أحد السباحين إطارا مطاطيا تشبثت به، ولم أغطس تحت الناقلتين الضخمتين وابتعدت عن خطر الغرق. المرة الثانية حدثت أثناء انتفاضة الشعب العراقي في تشرين عام 1952، حيث سارت التظاهرات في شارع الرشيد ثم استمرت في شارع الملك غازي (الكفاح حالياً)، وعند وصولها بالقرب من ضريح الشيخ عبد القادر الكيلاني، انطلق رصاص كثيف من مركز الشرطة المحاذي للضريح، وكنت واقفاً خلف سيدة عراقية مرتدية العباءة واخترقت رصاصة العباءة ومرقت بالقرب مني. أما الحالة الثالثة فقد حدثت في عام 1953، عندما قدم محمد رضا بهلوي شاه إيران إلى بغداد هارباً من غضب الشعب الايراني، وصادف أن كنت في شارع الرشيد ومرت سيارة الشاه في الشارع متوجهة إلى قصر الضيافة في بغداد -القصر الأبيض. وبدأ البعض من أهالي بغداد برمي حبات الطماطم على سيارة الشاه، ولم اتردد في مشاركة هؤلاء في رمي حبة واحدة من الطماطم على السيارة، وسرعان ما هاجمتنا مجموعة من الشرطة مستخدمة العصي الغليظة وهويت على الأرض مغمىً علي بعد ان طالت الضربة الشديدة وسط جسمي. أما في الحالة الرابعة فقد حدثت في عام 1964، عندما اعتقلت في طهران من قبل اجهزة الأمن الايرانية مع مجموعة من الرفاق الذين لجأوا إلى ايران بعد انقلاب شباط عام 1963، وبدأت طاحونة التعذيب العبثي لزبانية الأمن الايراني فقدت الوعي لعدة مرات دون أن يكفوا عن ممارساتهم الوحشية، وتكرر الأمر في عام 1979 بعد الثورة الايرانية حيث اعتقلت من قبل نفس الأطراف التي اعتقلتني في عهد الشاه، وبلغ الأمر حدا أن وجه الاتهام لي بالتجسس لحساب من؟؟ غير معروف؟ واقتربت من التهديد بحكم الاعدام لولا تدخل الرئيس السوري، وخرجت من السجن متجها إلى دمشق.

ولكن المرة الأخيرة كانت الأخطر، عندما تعرضت في عام 1988 في لندن إلى نوبة قلبية حادة أدت إلى حدوث خلل في القلب، سارع البرفسور أيفانس إلى التخفيف من آثارها ولكنه كان مصراً على إجراء عملية زرع القلب. توجه الدكتور ايفانس صوب البرفسور مجدي يعقوب في مستشفاه في ضواحي لندن (هيرفيلد)، والتقيت لأول مرة بهذا الجراح الذائع الصيت وبتواضعه وهدوئه الذي يثير الانتباه، وقال لا يمكن إجراء عملية الزرع لأنها لا تلائم الحالة الخطيرة، ولكنه قال يمكن ترميم القلب والانتظار الى حين أن يكون بمستطاع ما تبقى منه أن يرمم نفسه!!وقبيل العملية التقيت بالفريق الطبي الذي يتولى الجراحة  في مستشفى هيرفيلد وعلى رأسهم البرفسور مجدي يعقوب الذي تحدث عن خطورة العملية، وقالها صراحة حول احتمال الرحيل عن هذه الدنيا، مؤكداً أن درجة النجاح ضعيفة جداً وهي عملية نموذجية، وإن النجاح المحدود يعتمد على مقدار التحلي بالأعصاب القوية وحبك للحياة. بدأت العملية وكان البرفسور يراقبني في المراقبة المكثفة خلال الساعات والايام الأولى طوال الوقت لتفادي أية مضاعفات، ولكن حصل توقف مفاجئ في القلب سرعان ما تولى البرفسور معالجة هذه اللحظات الحرجة، وأمر بزرع آلة في الصدر لتفادي حصول مثل هذه الحالة مجدداً. ونجحت العملية بفضل مهارة هذا الانسان النبيل وطاقمه النشط وخرجت من المستشفى، ولكن حدث "فتق" في الصدر ، وشاهد الدكتور ذلك خلال لقاءاته الدورية، وطلب إجراء عملية جراحية أخرى بنفسه ، وهي ليست عملية جراحية للقلب ضمن اختصاصه، وعلى حسابه الخاص.  هذا الإنسان الفريد في موهبته وإنسانيته شق طريقه بصعوبة كي يجد العلاج والحلول لمرضى القلب تحديداً.

وُلد مجدي حبيب يعقوب في الشرقية في 16 تشرين الثاني1935. كان والده جراحًا أيضًا، مما أعطاه إلهامًا أكبر لاختيار هذه المهنة. حصل على تعليمة الطبي في جامعة القاهرة وتأهل كطبيب في عام 1957، حيث قرر بأن يختص في جراحة القلب. ولكن لم يجد في بلده الدعم والتشجيع. انتقل إلى بريطانيا في عام 1962، ثم عمل كمدرسٍ في جامعة شيكاغو. بعد انتقاله إلى بريطانيا، أصبح مستشارًا اختصاصيًا في أمراض القلب والصدر في مستشفى هارتفيلد في عام 1962. ثم أصبح بروفيسورًا في المعهد الوطني للقلب والرئة عام 1986، كما شارك في تطوير تقنيات زراعة القلب والرئة. لقد أجرى السير مجدي يعقوب أكبر عددٍ من عمليات الزراعة الجراحية في العالم، وبفضله أصبح مستشفى هارتفيلد مركزًا رياديًا في الزراعة الجراحية حيث تجرى أكثر من 200 عملية سنويًا. ثم أصبح مديرًا للدراسات والأبحاث الطبية عام 1992 وهو العام نفسه الذي مُنح فيه لقب "سير". تحت قيادته، بدأ برنامج الزراعة في مستشفى هارفيلد عام 1980، وبحلول نهاية العقد، قام هو وفريقه بتنفيذ (1000) عملية، وأصبح مستشفى هارفيلد المركز الرئيس لزرع الأعضاء في المملكة المتحدة. عُين يعقوب أستاذًا في المعهد الوطني للقلب والرئة في عام 1986، وشارك في تطوير تقنيات زرع القلب والقلب والرئة. أسس السير مجدي يعقوب "سلسلة الأمل" في المملكة المتحدة عام 1995، والتي هي مؤسسةٌ طبيةٌ خيرية ‏تهدف إلى مساعدة الأطفال الذين يعانون من أمراضٍ قلبيةٍ خطيرة تهدد حياتهم وذلك بتقديم العلاج الطبي والجراحي مجانًا. وقد سميت هذه المؤسسة الخيرية بهذا الاسم، لأن سلسلة من الأشخاص المشتركين في هذا المشروع يتبرعون بالمال، وبالمساعدة الطبية وغيرها. ولقد استطاعت سلسلة الأمل تشخيص حالة آلاف الأطفال وإجراء أكثر من 600 عملية قلب مفتوح حتى الآن. إن الأشخاص الذين توظفهم سلسلة الأمل هم متطوعون للعمل كمضيفين للعائلات، بالإضافة إلى تقديم الخدمات للطفل. أما الخطوة الأخيرة في سلسلة الأمل فهي الفريق الطبي، الذي تطوع بتخصيص كل وقته وجهده لمساعدة الأطفال. أجرى السير مجدي يعقوب 20000 عملية جراحية قلبية بشتى أنواعها، مثل عمليات قلب الكبار بأنواعها وجراحات قلب الأطفال إضافةً إلى جراحات استبدال القلب والرئة والتى تطورت على يده منذ بدئها. ويعتبر يعقوب من الأطباء الذين أجروا أكبر عددٍ من الجراحات على مستوى العالم. وكعالمٍ، فإن اهتمامه بالآليات الأساسية لبنية ووظائف القلب السليم والمريض قد حسنت الزراعة الجراحية ورعاية المرضى. وبعد اعتزاله إجراء العمليات الجراحية في سن الــ65، لا يزال السير مجدي يعمل كمستشارٍ رفيع المستوى وكسفيرٍ لدعم عمليات الزراعة الجراحية. أسس أكبر مجمع في الشرق لعلاج القلب في أسوان، ويقوم الآن بتأسيس مجمع أكبر في مدينة القاهرة، حيث يؤدي هو وظيفته بشكل مجاني. هؤلاء هم العظماء.

عرض مقالات: