شهدت ولاية تورنغن الألمانية ومعها عموم الساحة السياسية في البلاد ما وصفها المعلقون والديمقراطيون بأنها فضيحة وانهيار سياسي غير مسبوقين، ففي الخامس من شباط الحالي انتخب توماس كمريش من الحزب الليبرالي الحر رئيسا جديدا لوزراء الولاية، ولأول مرة، منذ هزيمة النازية في عام 1945 تنتخب شخصية سياسية لمنصب مهم بأصوات النازيين الجدد. ولم يأت هذا الانتخاب صدفة، بالرغم من عدم وجود مفاوضات رسمية لتشكيل تحالف بين الحزب الليبرالي الحر، والحزب الديمقراطي المسيحي، وحزب "البديل من اجل المانيا" اليميني المتطرف، حزب النازيين الجدد.
وكانت انتخابات برلمان الولاية في 27 تشرين الأول الفائت قد تمخضت عن النتائج التالية: حقق حزب اليسار الألماني أفضل نتائجه الانتخابية، منذ تأسيسه في حزيران 2007، وحصل على 31 في المائة من أصوات الناخبين، بزيادة قدرها 3 في المائة. وجاءت هذه النتيجة التاريخية مكافأة لأداء حكومة السابقة بزعامة القيادي في الحزب بودو راميلو، الذي قاد تحالف مع الديمقراطيين الاجتماعيين والخضر. ومني الحزب الديمقراطي المسيحي بهزيمة كبيرة، وحصل على 21.7 في المائة، وبخسارة قدرها 11.8 في المائة، تاركا الموقع الثاني لحزب "البديل من اجل المانيا" النازي الجديد الذي حصل على 23.4 في المائة. وكانت النتيجة بالنسبة للديمقراطيين المسيحيين مناسبة للاختلافات والانقسامات.
وبسبب فقدان الحزب الديمقراطي الاجتماعي والخضر للكثير من الاصوات، لم يحافظ التحالف الحاكم على أغلبية حسابية لاستمرار التحالف، ومع ذلك اتفقت الأحزاب الثلاثة على استمرار التحالف، والعمل على تشكيل حكومة الأقلية.
ووفق النظام الانتخابي المعمول به في الولاية هناك 3 جولات انتخابية في حال عدم تحقيق أي من المرشحين الأكثرية المطلقة (50 +1) وفي الجولة الثالثة يتم الاكتفاء بالحصول على اعلى الأصوات. وفي جولتي الانتخاب الأولى والثانية تنافس مرشح التحالف الحاكم بودو راميلو، ومرشح النازيين الجدد الشخصية المستقلة كرستوف كندرفاتر. وفي الجولة الأولى حصل مرشح اليسار على 43 صوتا، بزيادة صوت واحد على أصوات تحالفه، فيما حصل مرشح النازيين الجدد على 25 صوتا بزيادة 3 أصوات على أصوات حزب "البديل من اجل المانيا" الذي رشحه. وفي الجولة الثانية حصل مرشح اليسار على 44 صوتا مقابل 22 صوت لمرشح النازيين الجدد.
وفي جولة الانتخابات الثالثة والحاسمة، أعلن الحزب الليبرالي الحر عن ترشيح زعيمه في الولاية كيمريش، والذي لم يشارك كمرشح في الجولتين السابقتين. وحصل مرشح اليسار على 44 صوتا، ومرشح النازيون الجدد على صفر من الأصوات، فيما انتخب كمريش رئيسا لوزراء الولاية بـ 45 صوتا، وبفارق صوت واحد عن مرشح اليسار. وبدا واضحا ان عملية التصويت الأخيرة جاءت نتيجة لتفاهم غير معلن بين أحزاب اليمين "الديمقراطي"، الليبرالي الحر والديمقراطي المسيحي وحزب النازيين الجدد.
من الواضح ان الهدف هو تشكيل حكومة اقلية من قطبي اليمين التقليدي، والاعتماد على أصوات النازيين الجدد في إقرار مشاريع القوانين، دون الدخول معهم في تحالف مباشر. ان خطورة هذه الممارسة تتمثل في إضفاء الشرعية البرلمانية والمجتمعية على النازيين الجدد، وتحويليهم الى صناع ملوك في الولاية. والسير خطوة الى الامام في سياسة اليمين التقليدي في توظيفهم كأداة لمحاصرة وابعاد اليسار عن موقع القرار.
رفض واحتجاج

وحال اعلان نتائج الانتخاب، عمت الولاية موجة احتجاجات ضد المؤامرة البرلمانية، والاستعانة بأصوات النازيين الجدد، وكذلك أعلن العديد من المنظمات الاجتماعية والنقابات رفضها ما حدث. وفي برلين أعلنت شخصيات قيادية سابقة في الحزب الليبرالي الحر رفضها الصفقة. وعبرت المستشارة الألمانية عن رفضها التعامل مع اليمين المتطرف. واحست قوى اليمين التقليدي بالأضرار المحتملة نتيجة للتعاون مع النازيين الجدد. واعتبرت شخصيات قيادية في حزب اليسار وكتلته البرلمانية ان ما حدث يمثل فضيحة واحتيالا مفضوحا على إرادة الناخبين. وفي السياق نفسه جاءت مواقف الديمقراطيين الاجتماعيين والخضر. مما اضطر رئيس الوزراء المنتخب على الإعلان عن نيته للاستقالة وحل البرلمان واجراء انتخابات جديدة.
ان قوى اليمين التقليدي تسعى الى ترشيح شخصية من الحزب الديمقراطي الاجتماعي او الخضر، على أساس انتخاب شخصية من أحزاب الوسط، وتحت يافطة "ابعاد اليمين واليسار المتطرف". لكن هذه الأحزاب رفضت الفكرة وتمسكت بالتحالف مع حزب اليسار. وعلى الرغم من ان استطلاعات الرأي التي تعطي التحالف الحاكم الحصول على 53 في المائة، وحزب اليسار تقدم ليصل الى 37 في المائة، أي اغلبية واضحة. رفض حزب اليسار اجراء انتخابات واكد انه يعمل على طرح مرشحه من جديد، لحصوله على تأييد جماهيري يصل الى 73 في المائة. وجعل اجراء انتخابات جديدة خيار أخير.
التاريخ المعاصر لألمانيا يؤشر ان مسيرة هتلر للسلطة بدأت مع اشراك وزراء من حزبه في حكومة ولاية تورنغن في عام 1930، أي قبل 3 سنوات من استلام النازيين السلطة في كانون الثاني عام 1933.

عرض مقالات: